شهر واحد فقط يفصلنا عن ذكرى آخر عدوان إسرائيلي على غزة، رغم أن الحصار الذي تمارسه "إسرائيل" والمتواطئون معها، على القطاع، هو عدوان على مدار اللحظة. ففي الثامن من تموّز 2014، كان للذاكرة الفلسطينية أن تحشد المزيد من أجل 51 يوماً من الإبادة الجماعية والتي راح ضحيّتها حوالي 2170 شهيداً، معظمهم من المدنيين، بينهم 544 طفلاً.
في الواحدة ليلاً، اشتعلت الإذاعات المحلية فجأةً ببث أخبار مختلفة عمّا حدث، 12 إصابة حسب تصريحات "وزارة الصحة" لم تشكّل قلقاً واضحاً، رغم الشكوك الدائمة، وعندما جاء تصريح الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي ببدء "حملة عسكرية" واسعة على قطاع غزة، اتخذت اسم "الجرف الصامد"، بدا أن الأمر يخرج عن كونه مجرد "حادثة". هكذا، بهذه السذاجة بدأ العدوان الأكثر دموية على غزة..
في أحسن ظروفه، يعيش المواطن الغزّي حياته بمحاولات تجاوزِها، إلا أن ما يمكن أن يكون عادياً هو في -أسوأ ظروفه- غير متاح له. وحرب عدوانية تتحامل على نفسها لتصل الى 51 يوماً، هو آخر ما كان يريد، أما الحكاية البطولية لتوظيف الصمود وإن كان في –جملة أحداث مبالغاً فيها- فهو شقّ أساسي في مسألة وجوده "معنوياً"، كرزمةٍ من عصي تتعاضد عند هذه المسألة.
اقتطع عدوان تموز 2014، الكثير من حياة هي بالأساس مقتطعة يومياً الى أبعد حد، وبالتالي كرّس عزلة الغزيين وإبعادهم، أو حتى مجرد إشغالهم والإمعان في إنهاكهم. اعتمد نظام "العقاب الجماعي" الذي اتبعته "إسرائيل" سياسة التدمير الكلّي لمنازل المدنيين بهدف تحريضهم على فصائل المقاومة، وأيضاً، في مسألة إحلال الرعب التي نجمت عن تسوية أبراج سكنية كاملة -حيث يقطن عدد كبير من المواطنين الغزّيين- بالأرض، كما حدث لبرج "الظافر4" في حي "تل الهوى" وهو ما مكّن "إسرائيل" من مواصلة مناوراتها الدموية.
لعدّة أيام كان سكّان حي الشجاعية، حيث أقطن، والبالغ عددهم حوالي مئة ألف نسمة، يتلقون اتصالات مسجّلة على هواتفهم الأرضية والنقّالة، تخبرهم بضرورة الجلاء إلى مناطق أخرى خارج الحيّ، وهو أمر قوبل باستخفاف بالغ من الجميع واعتبر مجرد "مزحة حقيرة" آنذاك.
إلا أنه في صباح الأحد، العشرين من نفس الشهر، أي بعد 12 يوماً من إعلان الحرب، كانت المزحة عبارة عن مجزرة دموية هائلة، أسفرت عن 74 شهيداً في محصّلتها الأولية، ونزوح من استطاع من الحي. كنت من المحظوظين إذاً لأن قذائف المدفعية لم تمزّق جسدي، وفي حي الرمال حيث انتقلنا، كان الفرق حاسماً، إذ إنني هناك كنت أرى الدم، أما هنا فإنني أشمّ رائحته، لا أكثر.
الطفلة التي التقيتها في مدرسة إيواء للعائلات التي نزحت إلى المدارس، جعلتني أعرف أنني قابلت الحرب لتوّي، وجهاً لوجه. بسملة (هكذا أذكر اسمها)، تلك الطفلة التي فقدت أمها في الحرب، عندما قصفت المدفعيات بيتهم في بيت حانون أو بيت لاهيا (لا أذكر تماماً) أخبرتني بوضوح، كيف رأت أمها وهي تموت من الخوف أولاً، ثم شاهدت الدم يتدفق من رقبتها المشقوقة، وهكذا عرفت، كما أخبرتني، أنها لم تعد بحاجة أيضاً لهذا العالم، خوفاً من أن تموت بنفس الطريقة. بسملة هي قصة صغيرة من بين قصص أطفال كثر، قتل أحد والديهم أو أسرهم كاملة.
بعد أيامٍ تلت، بدا أن مجزرة الشجاعية كانت مجرد بداية لمجازر ستأتي لاحقاً، فتبعتها مجازر دموية ربما كانت أكثر شِدّة، في رفح وخان يونس وبيت حانون، ثم مرّةً أخرى على أطراف حي الشجاعية، حيث سقط 40 شهيداً من بينهم مسعفون وصحافيون.
لم تنته الحرب عند هذا الحد، من يستطيع أن يعطيها صلاحية حتى، لأنها "سوف تنتهي، فقط في حال عاد القتلى".
(كاتب فلسطيني/ غزة)