كان يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري؛ الذي أطلقت فيه حركة المقاومة الإسلامية "حماس" عملية طوفان الأقصى ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، عبر مهاجمة القواعد العسكرية في محيط قطاع غزّة، تاريخياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، كونه ترك آثارًا وتداعياتٍ على الدولة العبرية، التي لم تعد هي نفسها، كما على القضية الفلسطينية عامّةً، وستكون له تداعياتٌ بالتأكيد على منطقة الحوض العربي الإسلامي؛ الشرق الأوسط، برمّتها، وفق اجتهاداتٍ وقراءاتٍ عديدةٍ عربيةٍ وإسرائيليةٍ ودوليةٍ.
في ما يتعلق تحديدًا بتداعيات طوفان الأقصى على عملية التسوية، والمفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فلا بدّ من الإشارة بدايةً إلى أنّ هذه العملية ميتةٌ سريريًا، منذ عقدٍ تقريبًا مع فشل آخر محاولةٍ قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما عام 2014، لكن دون أن يمتلك أحدٌ الجرأة لإعلان ذلك صراحةً وعلنًا، مع تلاعبٍ بالألفاظ والكلمات لتجميل وإخفاء هذه الحقيقة.
بنظرةٍ إلى الوراء؛ يمكن القول حتّى، إنّ العملية قد ماتت سريريًا مع فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، صيف عام 2000، حينها ابتدع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك عبارة: ليس هناك شريكٌ فلسطينيٌ للدولة العبرية، التي استغلها خلفه أرئيل شارون لشن عدوان السور الواقي 2002، ثم تنفيذ خطة فكّ الارتباط، والانفصال الأحادي عن غزّة، وشمال الضفّة الغربية 2005، في ما بدا إعلانًا ضمنيًا عن فشل، وموت عملية التسوية، وفكرة المفاوضات الثنائية مع السلطة الفلسطينية.
ثمة مسؤوليةٌ فلسطينيةٌ كبرى للبناء سياسيًا على إنجازات ودلالات الطوفان، خاصّةً مع الأثمان والتضحيات الهائلة المصاحبة للطوفان وتداعياته
بعد ذلك كان مؤتمر أنابوليس 2007 محاولة تنفسٍ صناعيٍ فاشلةً للعملية، زمن إدارة جورج بوش الابن، ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس، انتهت مع حرب غزّة الأولى 2008. ثم كانت محاولةٌ أخرى مع إدارة أوباما - جون كيري، انتهت عمليًا مع حرب غزّة الثالثة 2014.
إذًا، وخلال السنوات العشر الماضية كانت العملية ميتةً سريريًا، لكن لم يجرؤ أحدٌ على إعلان ذلك صراحةً، مع تبنّي رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو مقاربة إدارة الصراع، والحفاظ على الواقع الراهن، حيث حصار غزّة وإبقاؤه على قيد الحياة، مع سعيٍ لتأبيد الانقسام مع الضفّة الغربية، لإزالة القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، واعتبار إيران الخطر المركزي على المنطقة، ونسج علاقاتٍ وتنسيقٍ سياسيٍ أمنيٍ وسرّيٍ وعلنيٍ مع الدول العربية، بحجة مواجهة الخطر الإيراني.
خلال الفترة نفسها؛ تبنت الإدارات الأميركية المتعاقبة سياسة الانكفاء عن المنطقة، ولو بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ولكنها سعت أيضًا إلى الحفاظ على الوضع الراهن في فلسطين، دون أيّ سعيٍ جدّيٍ لاستئناف عملية التسوية والمفاوضات، مع تجميلٍ وتلاعبٍ بالكلمات، عبر الحديث عن إبقاء الأفق السياسي مفتوحًا أمامها، كي لا تنفجر فلسطين وقضيتها، وتفيض على المحيط الإقليمي والدولي.
خلال هذه السنوات كان دعمٌ سياسيٌ واقتصاديٌ أميركيٌ وأوروبيٌ للسلطة الفلسطينية في رام الله، التي قبلت للأسف التساوق مع سياسة الواقع الراهن؛ لا مفاوضاتٍ ولا أفق جديٍ أمام إمكانية استئنافها، من أجل التوصّل إلى اتّفاق سلامٍ عادلٍ ونهائيٍ، وفق ما يعرف بحلّ الدولتين.
بدت قيادة السلطة أسيرة هذا الواقع السوريالي، فهي لم تمتلك استراتيجيةً، وحتّى نيةً لكسره، مع منع ومواجهة أيّ محاولاتٍ شعبيةٍ وجماهيريةٍ لتغييره، في ظلّ استلابها لمفاهيم وقناعاتٍ متحجرةٍ عفا عنها الزمن.
المرحلة نفسها شهدت الاستعانة بمصر والأردن، لتشجيع السلطة على مواصلة مراوحتها بالمكان، وصيانة الواقع الراهن، والحفاظ عليه، والتدخل عند الحاجة لإطفاء الحرائق المشتعلة ضدّ الاحتلال في القدس والضفّة الغربية وغزّة على حدٍّ سواء.
كانت صفقة القرن للرئيس الأميركي دونالد ترامب استثناءً لم يعمر طويلاً، وهي لم تكن محاولةً جديةً لإحياء عملية التسوية والمفاوضات الثنائية، إنّما تصفيةً للقضية، وحلّها نهائيًا أحاديًا وقسريًا لصالح الرؤى الإسرائيلية، في سياقاتها التوراتية التاريخية الفكرية السياسية الأكثر تطرّفًا.
الشاهد أن المحصلة العامّة كانت الاستلاب للواقع الراهن، حيث حصار غزّة ومقاومتها، وتقديم الحدّ الأدنى من المساعدات، لإبقائها على قيد الحياة، والانقسام والانفصال عن الضفّة، والقمع الدموي للمقاومة المتصاعدة فيها، ولم يجرؤ أحدٌ على إعلان موت عملية التسوية "مدريد - أوسلو"، ومواجهة الواقع الناتج عن ذلك.
بنظرةٍ إلى الوراء؛ يمكن القول حتّى، إنّ العملية قد ماتت سريريًا مع فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، صيف عام 2000
من هذه الزاوية بدت عملية طوفان الأقصى بمثابة إعلانٍ سياسيٍ مدوٍّ عن موت العملية، والمرحلة السابقة برمّتها، إذ استحال مواصلة حصار غزّة، والانقسام، وتجاهل القضية الفلسطينية، واستحال الحفاظ على سلام المنطقة وأمنها واستقرارها، في غياب حلٍّ عادلٍ لها.
وعليه، فالتعاطي لا بدّ أن يختلف، وبدأنا فعلاً بسماع لغةٍ أخرى عربيًا وإقليميًا ودوليًا في هذا الاتجاه، لكن القصة ما تزال في بداياتها الأولى، ولا شكّ أنّ ثمة مسؤوليةٌ فلسطينيةٌ كبرى للبناء سياسيًا على إنجازات ودلالات الطوفان، خاصّةً مع الأثمان والتضحيات الهائلة المصاحبة للطوفان وتداعياته، ولا شكّ أنّ القيادة الفلسطينية الحالية قد أضحت في حالة موتٍ سريريٍ أيضًا، مع حتمية ظهور قيادةٍ جديدةٍ شرعيةٍ وديموقراطيةٍ وتتسم بالمصداقية، مع الانتباه إلى انشغال إسرائيل بنفسها سياسيًا وحزبيًا وداخليًا لسنواتٍ طويلةٍ قادمةٍ، وسيكون تغييرًا سياسيًا كبيرًا وربّما انقلابًا، كما حصل بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وتحوّلًا عميقًا، سواء إلى أقصى اليمين المتطرّف، أو إلى الوسط البراغماتي بالمعيار الإسرائيلي طبعًا.
في الأخير وباختصارٍ وتركيزٍ، أغرق الطوفان المرحلة السابقة برمّتها، ولكن دون تحديد معالم القادمة نهائيًا وبالتفصيل، المهمّ استحالة استمرار واقع ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ لا إمكانية لكنس القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، مع التأكيد على ضرورة عقد مؤتمرٍ دوليٍ للسلام، من أجل حلٍّ عادلٍ ونهائيٍ للقضية، بعيدًا عن الآليات والأساليب السابقة، وتحديدًا الرعاية الأميركية الحصرية للعملية. وإذا لم يحدث ذلك فالانفجار القادم حتميٌّ، ومسألة وقتٍ فقط، وسيكون بالتأكيد مدوّيًا ومزلزلًا أكثر من 7 أكتوبر بكثيرٍ.