شرّدت الحرب السورية، منذ اندلاع الثورة في العام 2011، ملايين السوريين من منازلهم ومدنهم وقراهم، منهم الذين اضطروا للهرب من بلدهم، واللجوء إلى دول الجوار، أو الوصول عبر البحر إلى القارة الأوروبية، ومنهم من أسعفه الحظ وساقته الأقدار وبرامج إعادة التوطين إلى كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وتسجّل منظمة الأمم المتحدة في قوائمها، أكثر من 5.5 ملايين لاجئ سوري، منذ بداية الأزمة السورية، منتشرين في دول إقليمية عدة محيطة بسورية (لبنان، الأردن، تركيا، العراق...)، يضاف إليهم حوالي 1.5 ملايين سوري، لجأوا إلى دول أوروبية عدة، ولا تشملهم الإحصاءات الأممية. هؤلاء اللاجئون، الذين فرّوا جميعهم من شبح الموت الذي فرضه النظام السوري ورئيسه بشار الأسد على سورية منذ اندلاع الثورة ومواجهة المحتجين على حكمه بالحديد والنار، دعاهم النظام ذاته أخيراً للمشاركة في انتخاباته الرئاسية، المزمع إجراؤها اليوم الخميس، للسوريين في الخارج، وفي 26 مايو/أيار الحالي في مناطق سيطرته في سورية. وينظر سوريون كثر في الداخل والخارج، وحتى من الموالين للنظام، إلى هذه الانتخابات، على أنها مسرحية جديدة للنظام بسيناريو مكرّر، لإعادة فرض الأسد رئيساً للبلاد، أو بالأحرى للنظام، بعدما فقد السيطرة على أجزاء واسعة من سورية. وأخذت سفارات النظام وقنصلياته في عدد من دول الجوار، وفي بلدان عربية وحتى أوروبية، تدعو منذ منتصف نيسان/ إبريل الماضي، السوريين المقيمين في الخارج، إلى تسجيل أسمائهم تمهيداً للمشاركة في هذه الانتخابات، ضمن مشهد سوريالي يؤكد انفصال النظام عن الواقع.
تدرج السفارات والقنصليات التابعة للنظام أسماء مُراجعيها في قوائم الناخبين
وفي حين تعد مشاركة اللاجئين السوريين المنتشرين في العالم في انتخابات النظام، مسألة شبه مستحيلة لمعظمهم، فإن نشطاء وحقوقيين سوريين باتوا يوجهون أصابع الاتهام للنظام، بلجوء السفارات والقنصليات التابعة له إلى استخدام أسماء مُراجعيها من السوريين المحتاجين للتعامل معها لاستخراج أوراقهم الثبوتية، وإدراجها في قوائم الناخبين، ومن ثم تضمينها كأصوات في صناديق الاقتراع، وسط عدم إشراف أممي أو دولي على الانتخابات المزمع إجراؤها، والتي تلقى عدم اعتراف بشرعيتها ولا حتى بنتائجها المتوقعة من قبل المجتمع الدولي، لكونها تتم بمعزل عن القرارات الدولية الخاصة بفرض الحلّ السوري، لا سيما القرار 2254، الذي يقضي بأن تكون الانتخابات وفق دستور جديد للبلاد، وبعد مرحلة انتقالية يعود فيها اللاجئون إلى مساكنهم الأصلية، علاوة على الإشراف عليها من قبل المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
ومنتصف الشهر الماضي، حدّد رئيس مجلس الشعب (البرلمان) التابع للنظام، حمودة الصباغ، موعد الانتخابات الرئاسية داخل البلاد وخارجها، على أن تتم انتخابات الخارج اليوم الخميس في 20 من الشهر الحالي، في حين ستجري الانتخابات داخل مناطق سيطرة النظام الأربعاء المقبل. وبعد إعلان الصباغ بأيام، فتح مجلس الشعب والمحكمة الدستورية العليا باب الترشح، لتستقبل المحكمة والمجلس حوالي 50 طلباً لمنافسين صوريين لبشار الأسد في الانتخابات، معظمهم من المؤيدين له، والذين لا يحظون بأي حضور سياسي أو اجتماعي فاعل. وقبِل المجلس والمحكمة 3 طلبات ترشح رئاسي لكلّ من الأسد وعبد الله سلوم عبد الله ومحمود مرعي.
ويفقد النظام اليوم أي نفوذ في كلّ من تركيا وأوروبا، ما يصعّب أي محاولة له لممارسة الضغوط المباشرة على اللاجئين، وإجبارهم على المشاركة في انتخاباته الهادفة لتثبيت الأسد في ولاية رئاسية إضافية مدتها 7 سنوات، ما يثير الاتهامات له بلجوئه إلى استخدام بيانات مراجعي السفارات والقنصليات، لتدوين أسمائهم في قوائم الانتخاب والتصويت. أما لبنان، الذي يستقبل قرابة مليون لاجئ سوري، فيؤمن للنظام السوري هذا الحضور، من خلال القوى السياسية الحاكمة والحليفة له، والتي راحت أخيراً تتحرك لترغيب السوريين، لا سيما المتواجدين في مخيمات اللجوء، بالمشاركة في الانتخابات، مستخدمة وسائل ضغط ملتوية، مفادها إزالة المضايقات عن هؤلاء اللاجئين في المخيمات اللبنانية، والتي تفاقمت خلال الأعوام الأخيرة الماضية، نتيجة التحريض عليهم من قبل القوى ذاتها.
من جهتها، تضمّ تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين، بحوالي 3.5 ملايين لاجئ، معظمهم من سكّان المحافظات الشمالية السورية، لاسيما حلب وإدلب والرقّة، والتي تعرضت للتنكيل من قبل الآلة العسكرية للنظام أكثر من غيرها، ما دفع بأهلها للجوء. ويرى الصحافي السوري عبو حسو، المقيم في تركيا والمتابع عن كثب لأوضاع اللاجئين السوريين في هذا البلد، أن "مسألة تزوير الانتخابات تعد عادةً لدى نظام البعث في سورية"، مؤكداً أن بلاده "لم تشهد أيّ انتخابات نزيهة في ظلّ هذا النظام". وفي هذا السياق، يلفت حسو، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الانتخابات الرئاسية المرتقبة لن تكون استثناءً، بل على العكس، هي أكثر انتخابات فاقدة للشرعية، لا سيما مع وجود أكثر من 8 ملايين سوري خارج بلادهم، التي غادروها ضمن ظروف باتت معروفة للجميع، ولا يمكن أن يشاركوا في انتخابات تهدف إلى تثبيت من هجّرهم وقتل أقرباءهم". ويرى حسو أنه "بناء على ذلك، فإن النظام سيلجأ بالتأكيد من خلال قنصلياته وسفاراته إلى استخدام بيانات اللاجئين المراجعين لهذه السفارات والقنصليات طوال السنوات العشر الماضية من عمر اللجوء السوري، طلباً لاستخراج ثبوتياتهم، من أجل رفع نسبة المشاركة في الانتخابات، ونسبة التأييد للأسد، من خلال إدراج أسمائهم في جداول الانتخابات ووضع أوراق تصويت في صناديق الاقتراع".
ويذكر حسو في هذا السياق، حادثة كان شهد عليها خلال عضويته في أحد المراكز الانتخابية بريف حلب، في أحد الاستفتاءات الرئاسية مطلع التسعينيات من القرن الماضي. ويروي أنه "بعد قطع الأمل في أن يصوت في المركز أكثر من 20 سورياً، جاءت التعليمات من شعبة الحزب (البعث) بأن يملأوا جداول الانتخاب بأسماء أقرباء ومعارف لهم، وعندما لم يستوف العدد المطلوب، تم اللجوء إلى إدراج أسماء وهمية".
ويؤكد حسو أن "جميع اللاجئين في تركيا، هم ممن عانوا بطش هذا النظام، وتستحيل مشاركتهم في انتخابات تهدف إلى تعويم مُشّردهم وقاتل أقربائهم، وهذا ينسحب على اللاجئين في أوروبا وفي كل مكان في العالم، لذا لا بد للنظام من اللجوء إلى هذه الحيلة".
يصعب على النظام ممارسة الضغوط المباشرة على اللاجئين في دول أوروبية وفي تركيا مثلاً
من جهته، يرى الخبير القانوني وكبير المفاوضين السابق في المعارضة السورية، محمد صبرا، أن "كلّ ما يسمى بالعملية الانتخابية في سورية، يفتقد إلى المصداقية وإلى أبسط المعايير القانونية، سواء الدولية أو حتى تلك الموجودة في قوانين ودستور بشار الأسد"، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "أولى شروط الانتخابات، تمكين الناخب من الإدلاء بصوته وتحديد خياره بشكل حرّ، وهو أمر غير متوفر نتيجة عدم وجود الضمانات القانونية والأمنية اللازمة التي تسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه من دون خوف، كذلك فإنه لا وجود لسلطة مستقلة عن النظام تضمن نزاهة الإجراءات وتضمن أيضاً توافر الشروط اللازمة فيها".
أما في ما يخصّ مشاركة اللاجئين السوريين في الخارج بالانتخابات من خلال السفارات والقنصليات، فيوضح صبرا أن الأساس لذلك "هو تنظيم جداول الناخبين، أو ما يسمى بقوائم الشطب، والتي تحدد أسماء الناخبين ولأي دائرة انتخابية ينتمون، والقضية هنا ليست قضية صندوق يتم حشر أوراق فيه، بل لا بد من إجراءات قانونية محددة تسبق الانتخابات حتى تكون ذات مصداقية". ويضيف أن "المسألة الرئيسية التي يمكن من خلالها تبين عدم شرعية هذه الانتخابات، أنها تحرم أكثر من نصف الشعب السوري من الإدلاء بصوته وتحديد خياراته نتيجة التهجير واسع النطاق الذي مارسه النظام، والتدمير شبه الكامل لمدن وبلدات بأكملها، وهذا بحد ذاته كافٍ لرفض هذه الانتخابات وكل ما ينتح عنها".
ويؤكد الخبير القانوني السوري أن "المبرر هو بكون شرعية نظام بشّار الأسد لم تعد قائمة من ناحية واقعية أو قانونية، فهناك في سورية الآن أربع حكومات، إحداها حكومة الأسد، وهي لا تملك أيّ أساس للشرعية أكثر من باقي الحكومات الأربع المتبقية، وبالتالي فإننا نرى أن الحكومات الأربع الموجودة وهي حكومة بشار وحكومة قوات سورية الديمقراطية (قسد) وحكومة الائتلاف وحكومة هيئة تحرير الشام، كلّها سلطات أمر واقع لا تملك أي مستند للشرعية، ويجب التعامل معها على هذا الأساس".
ويختم صبرا حديثه مستشهداً بقول منسوب للديكتاتور السوفييتي، جوزيف ستالين، عن الانتخابات: "ليس من المهم من يصوت في الانتخابات، المهم من يعد الأصوات". وبرأيه فإن هذا القول "ينطبق على كل الأنظمة الديكتاتورية وسلطات الأمر الواقع".
القوى السياسية الحليفة للنظام في لبنان، راحت أخيراً تتحرك لترغيب السوريين بالاقتراع
ويصّر الأسد والنظام على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر، على الرغم من نزوح أكثر من عشرة ملايين سوري عن مساكنهم الأصلية، لجأ نصفهم إلى خارج البلاد، فيما يقبع النصف الآخر في مخيمات اللجوء كنازحين، نتيجة تعاظم القبضة الأمنية والعسكرية في مناطقهم جرّاء المعارك، أو يقطنون في مناطق سيطرة المعارضة. ويتوزع حوالي خمسة ملايين سوري بين مناطق سيطرة المعارضة في كلّ من إدلب وشمال حلب، ومناطق سيطرة "الإدارة الذاتية" الكردية شمال شرق سورية، ما يعني أن حوالي ربع السوريين فقط لا يزالون في مناطق سيطرة النظام التي يستطيع الأسد نشر صناديق الاقتراع فيها.
وحتى 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سجّلت "المفوضية العليا لشؤون اللاجئين" التابعة للأمم المتحدة، 5,570,382 لاجئاً سورياً؛ 3,626,734 منهم في تركيا، و879,529 في لبنان، و659,673 في الأردن، و242,704 في العراق، و130,085 في مصر، و31,657 في دول شمال أفريقيا (تونس، الجزائر، المغرب، ليبيا، السودان)، وذلك استناداً إلى الإحصائيات الرسمية والأعداد المسجلة لدى المفوضية فقط، إذ تقول هذه الدول إنّ الأعداد الحقيقية للاجئين السوريين أعلى من ذلك، وإن جزءاً كبيراً منهم غير مسجّل. ولا تشمل هذه الإحصائية اللاجئين في أوروبا، الذين يفوق عددهم المليون ونصف المليون، إذ تستضيف ألمانيا بمفردها 600 ألف لاجئ سوري. هذا عدا عن النازحين داخلياً والمهجرين قسراً، الذين يبلغ عددهم نحو 6 ملايين سوري، ما يعني أنّ نصف السوريين اليوم بعيدون عن بيوتهم.