دخلت الأزمة العراقية، أمس الثلاثاء، فصلاً جديداً من التعقيد، بعد بدء أنصار "التيار الصدري" بزعامة مقتدى الصدر اعتصاماً أمام مقرّ مجلس القضاء الأعلى داخل المنطقة الخضراء، وسط العاصمة بغداد، مطالبين بحلّ مجلس النواب وعدم تسيّس المؤسسة القضائية وإصلاح القضاء في العراق.
وجاء الرد سريعاً من مجلس القضاء الأعلى، على اعتصام أنصار "التيار" الصدري أمام مقره، معلناً تعليق عمله والمحاكم التابعة له، والمحكمة الاتحادية العليا، احتجاجاً على "التصرفات غير الدستورية"، محمّلاً الحكومة و"التيار الصدري" مسؤولية النتائج المترتبة على ذلك، ومؤكداً تلقيه رسائل تهديد للضغط على المحكمة. وقال المجلس في بيان إن "محكمة تحقيق الكرخ الأولى باشرت إجراءات جمع الأدلة عن جريمة تهديد المحكمة الاتحادية، لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق الفاعلين"، قبل أن يعلن مساء أمس عن إلغاء قرار تعليق أعماله بعدما وجّه الصدر أنصاره بالانسحاب من أمام مجلس القضاء.
أعلن مجلس القضاء الأعلى تعليق عمله والمحاكم التابعة له، والمحكمة الاتحادية العليا قبل أن يلغي القرار مساء أمس
الإعلان عن تعليق عمل القضاء، جاء محرجاً للصدريين، خصوصاً مع إغلاق المحاكم ودور القضاء، بما فيها محاكم الأحوال المدنية. وفي خطوة لتهدئة الأوضاع، دعا زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر، عصر أمس، أنصاره إلى الانسحاب من أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى، مع الإبقاء على الخيام التي تم نصبها صباح أمس قائمة، ومنحها أسماء لجرائم وانتهاكات حصلت في البلاد طوال السنوات الماضية، ولم يحقق فيها القضاء.
ونقل المقرب من الصدر صالح محمد العراقي، بياناً عن الأول قال فيه، إن "في السلك القضائي في العراق الكثير من محبّي الإصلاح والمطالبين بمحاسبة الفاسدين، وإن كان هناك فتور في ذلك، فهو لوجود ضغوطات سياسية من فسطاط الفساد ضدّهم، وأنه لو ثنيت لي الوسادة لكنت مع استمرار الاعتصام أمام القضاء الأعلى لنشجعه على الإصلاح ومحاسبة الفاسدين".
واستدرك بالقول: "لكن وللحفاظ على سمعة الثوّار الأحبة ولعدم تضرر الشعب، أنصح بالانسحاب وإبقاء الخيام تحت عنوان ولافتة (اعتصام شهداء سبايكر) و(أهالي الموصل) و(استرجاع الأموال المنهوبة) و(محاسبة الفاسدين) بلا انحياز، و(إقالة الفاسدين) و(فصل الادعاء العام) و(قضاء مستقل ونزيه) وغيرها من العناوين التي يريد الشعب تحقيقها"، مطالباً إياهم "باستمرار الاعتصام أمام البرلمان إن شئتم ذلك فالقرار قرار الشعب".
وبعد نحو ساعتين من قرار الصدر سحب أنصاره من محيط مبنى مجلس القضاء الأعلى الواقع داخل المنطقة الخضراء وسط بغداد، أصدر المجلس بياناً أعلن فيه إلغاء تعليق عمله والعودة إلى ممارسة مهامه مجدداً اعتباراً من اليوم الأربعاء.
وسبق ذلك تأكيد عضو "التيار الصدري" محمد الدراجي، لـ"العربي الجديد"، أن "استمرار اعتصامهم في محيط مبنى مجلس القضاء رهن بقرار من النجف"، في إشارة إلى زعيم التيار مقتدى الصدر. ووصف الدراجي القضاء العراقي بأنه "طرف غير محايد في الأزمة السياسية وخاضع للفصائل المسلحة والأحزاب الولائية". ويستخدم في العراق مصطلح "الولائية" للإشارة إلى القوى الحليفة لإيران.
وأكد الدراجي لـ"العربي الجديد" أن "مقر مجلس القضاء لا يزال على حاله، إذ لم يتم دخوله، والجميع (المعتصمون) خلف السور الخارجي له، وهناك بابان للمبنى، ترك واحد منها من دون تحشيد حوله". لكن أضاف أن "رئيس مجلس القضاء فائق زيدان كان يريد الحجة للقرار والتصعيد"، على حدّ تعبيره.
مذكرات اعتقال بحق 3 قيادات صدرية
وأصدرت محكمة الكرخ العامة في بغداد، أمس، مذكرات إلقاء قبض بالتوالي، على النائب المستقيل من البرلمان عن الكتلة الصدرية، غايب العميري، والقياديين في "التيار" صباح الساعدي ومحمد الساعدي، بتهمة تهديد القضاء، وفقاً لبيانات رسمية صدرت عن المحكمة.
إلا أن القيادي في "التيار الصدري" محمد الساعدي، قال لـ"العربي الجديد"، في حديث مقتضب، إن "التيار الصدري يضع في الحسبان تقديم تضحيات كثيرة من أجل تخليص العراق من بركة المحاصصة الطائفية والحزبية والتبعية"، بحسب تعبيره، مضيفاً أن مذكرة القبض الصادرة عن محكمة الكرخ "لا تستند لأي منطق".
الكاظمي يعود إلى بغداد
وقطع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي زيارته التي كان يجريها منذ مساء الإثنين إلى مصر، عائداً إلى بغداد. وحذّر الكاظمي، الذي كان يشارك في أعمال القمّة الخماسية بمصر (مع مصر والأردن والإمارات والبرحين) في بيان صدر عن مكتبه من أن "تعطيل عمل المؤسسة القضائية يعرض البلد إلى مخاطر حقيقية"، مؤكداً أن "حق التظاهر مكفول وفق الدستور، مع ضرورة احترام مؤسسات الدولة للاستمرار بأعمالها في خدمة الشعب". ودعا جميع القوى السياسية إلى التهدئة، مطالباً بـ"اجتماع فوري لقيادات القوى السياسية من أجل تفعيل إجراءات الحوار الوطني ونزع فتيل الأزمة".
قطع الكاظمي زيارته إلى مصر، ودعا للتهدئة
من جهته، أعرب رئيس البرلمان محمد الحلبوسي عن أسفه لما وصل إليه الوضع في العراق. وقال الحلبوسي في بيان: "اشتركنا في انتخابات نهاية العام الماضي بعد احتجاجات شعبية طالبت بتغيير الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وكان ذلك بهدف إصلاح الأوضاع، وإعطاء مساحة للقوى الناشئة في المشاركة السياسية، وأن تأخذ دورها في صناعة القرار السياسي داخل مجلس النواب، وإضافة استقرار للعمل السياسي، وإجراء إصلاحات حقيقية عبر المؤسسات الدستورية". كذلك حذّر الرئيس العراقي برهم صالح من تعطيل المؤسسة القضائية، داعياً إلى الحوار والتهدئة.
وأعرب عن أسفه "لما وصلنا إليه اليوم من تراجع أكثر ممَّا كنا عليه سابقاً، من خلال تعطيل المؤسسات الدستورية". وقال: "مجلس نواب معطل، مجلس قضاء معطل، حكومة تسيير أعمال، يجب أن نحتكم جميعاً إلى الدستور، وأن نكون على قدر المسؤولية لنخرج البلد من هذه الأزمة الخانقة التي تتجه نحو غياب الشرعية، وقد تؤدي إلى عدم اعتراف دولي بكامل العملية السياسية وهيكلية الدولة ومخرجاتها".
محاولات لإقناع السيستاني بالتدخل
وفي هذا السياق، قال مسؤول عراقي بارز في مكتب الكاظمي لـ"العربي الجديد" إن الحكومة تضع في "الحسبان الكثير من الاحتمالات للأزمة التي قد تتطور أكثر إلى ما لا يحمد عقباه".
وكشف المصدر عن بدء المبعوثة الأممية في بغداد جنين بلاسخارت حراكاً جديداً للتهدئة، إلى جانب شخصيات دينية، بهدف إقناع المرجع الديني علي السيستاني بالتدخل لمنع انزلاق الأمور للأسوأ"، وفق قوله.
بدء المبعوثة الأممية في بغداد جنين بلاسخارت حراكاً جديداً للتهدئة، إلى جانب شخصيات دينية، بهدف إقناع السيستاني بالتدخل
وتحدث المصدر عن وجود طرح جديد من قبل أوساط سياسية عدة تسعى إلى إقناع معسكري الأزمة (التيار الصدري و"الإطار التنسيقي") بها، يتضمن سحب "الإطار" ترشيح محمد شيّاع السوداني لتشكيل الحكومة الجديدة، وسحب جمهوره من الشارع، مقابل تعليق الصدر للاحتجاجات وسحب أنصاره من داخل المنطقة الخضراء، والبدء بحوار مباشر. وأكد أن الكاظمي يدعم هذا الطرح حالياً، على الأقل من أجل تهدئة المشهد.
"الإطار التنسيقي" يسحب مبادراته
ومقابل التصعيد الصدري، صعّد تحالف "الإطار التنسيقي"، الحليف لإيران، خطابه، أمس، داعياً "الشعب العراقي إلى الاستعداد والجهوزية للخطوة المقبلة"، ضد من وصفهم بـ"مختطفي الدولة"، في إشارة إلى احتجاجات أنصار "التيار الصدري" واعتصاماتهم.
ودان "الإطار" في بيان "التجاوز الخطير على المؤسسة القضائية وتهديدات التصفية الجسدية بحق رئيس المحكمة الدستورية"، مضيفاً أنه "يجب على القوى السياسية الوطنية المحترمة، وكذلك الفعاليات المجتمعية، عدم السكوت، بل المبادرة إلى إدانة هذا التعدي".
وأعلن التحالف عن "رفض استقبال أي رسالة من التيار الصدري أو أي دعوة للحوار المباشر، إلا بعد أن يعلن (الصدر) تراجعه عن احتلال مؤسسات الدولة الدستورية، والعودة إلى صف القوى التي تؤمن بالحلول السلمية الديموقراطية".
وحمّل "الإطار التنسيقي" الحكومة "مسؤولية للحفاظ على ممتلكات الدولة وأرواح الموظفين والمسؤولين، خصوصاً السلطة القضائية، التي تعتبر الصمّام الوحيد الذي بقي للعراق نتيجة تسلط قوى خارجة عن الدولة على المؤسسات وفرض إرادتها خارج سلطان الدولة".
كذلك دعا "الشعب العراقي بكامل شرائحه إلى الاستعداد العالي والجهوزية التامة للخطوة المقبلة، التي يجب أن يقول الشعب فيها قوله ضد مختطفي الدولة لاستعادة هيبتها وسلطانها". وطالب المجتمع الدولي بـ"بيان موقفه الواضح أمام هذا التعدي الخطير على المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها السلطة القضائية والمؤسسة التشريعية".
وتعليقاً على هذا التصعيد، رأى الخبير في الشأن العراقي أحمد النعيمي في حديث لـ"العربي الجديد" أن "أي محاولة لكسر أحد الأطراف المتصارعة تعني صداماً مسلحاً"، مضيفاً أن "العراق الآن يقف أمام خيار الحل بالتراضي، فقط لأن الطرفين مسلحان"، في إشارة إلى "التيار الصدري" وقوى "الإطار التنسيقي".
وقال النعيمي إن "الصدر أقوى شعبياً من خصومه، لكن الإطار التنسيقي، بدا أنه أفضل موقعاً، بعد تطورات مجلس القضاء الأعلى وصدور مواقف سياسية تندد بخطوة الصدريين".
ووصف الخبير السياسي الأحداث العراقية بأنها "متسارعة وقابلة للمفاجآت، ويمكن أن تنفجر من قبل أحد الطرفين أو من طرف آخر لا يريد للبلاد الاستقرار، ومن مصلحته حدوث صدام في الشارع".