لم يتوقع الرئيس التونسي قيس سعيّد ومناصروه أن مرحلة ما بعد 25 يوليو/تموز الماضي ستفضي إلى مأزق حقيقي بعد مرور شهر ونصف الشهر فقط على الإجراءات الاستثنائية. وما يُخشى في صورة البقاء على هذه الحال، أن تواجه تونس مع نهاية السنة الحالية إفلاساً حقيقياً وانهياراً لمؤسسات الدولة. المخاوف تزداد يومياً، بعد أن دفعت حالة الغموض السائدة حالياً الكثيرين إلى التساؤل حول مستقبل تونس، وجعلت البعض منهم يتنبأ بأسوأ السيناريوهات الممكنة. لكن على الرغم من ذلك بقي سعيّد يدافع بشراسة عن اختياراته، متحدياً معارضيه في الداخل والخارج، في ظلّ عدم اخفائه انزعاجه الشديد من ملفات لم يتمكن حتى الآن من السيطرة عليها، والتحكم في تداعياتها.
شكّل بيان الدول السبع الكبار صدمة لسعيّد لتضمنه دعوة صريحة لقيام برلمان فاعل
قيس سعيّد "مصدوم" من ردود فعل الأطراف الدولية الصديقة لتونس. كان يعتقد بأنّ الدول الغربية ستتفهّم الدوافع التي جعلته يلجأ إلى اتخاذ إجراءاته الاستثنائية، وأن الاشتباك مع حركات الإسلام السياسي إقليمياً ودولياً، من شأنه أن يدفع بالدول الكبرى نحو غضّ الطرف عما ستتعرض له حركة النهضة من خسائر في هذه المرحلة. غير أن ما اكتشفه سعيّد هو أن ملف العلاقة مع نادي الدول الديمقراطية ليس بالأمر الهيّن، ولا يختزل في قضية الصراع ضد الإسلام السياسي.
عندما بدأت واشنطن ترسل نصائحها تباعاً إلى الرئيس التونسي ظنّ بأن الدافع إلى ذلك قد يكون "اللوبي"، الذي أنفق عليه أنصار حركة النهضة أموالاً، رغم علمه بأن عملية التأثير تحتاج إلى عوامل أكثر جدية وتعقيداً. وجاء "التدخل" الأميركي في الشأن التونسي نتيجة تأخر الرئيس في توضيح خريطة الطريق والكشف عن الوجهة التي ينوي اتباعها، فأميركا متخوفة من لجوء قيس سعيّد إلى استغلال فشل الأحزاب، وفي مقدمتها "النهضة"، من أجل الشروع في تنفيذ خطته السياسية التي أعلن عنها في حملته الانتخابية، والمتعلقة بالنظام المجالسي (القائم على فكرة المجالس المحلية) الذي يؤمن به. لهذا السبب طالبته واشنطن من اللحظة الأولى بالرجوع سريعاً إلى الشرعية الدستورية، من دون أن تعترض على التعديلات التي يمكن أن يدخلها على النظام السياسي أو حتى على دستور 2014.
وعندما غادر وفد الكونغرس التراب التونسي، يوم السبت الماضي، من دون أن يتلقى إجابة واضحة حول المطالب التي عرضها على رئيس الجمهورية، ظن الموالون لسعيّد أن المسألة ستقف عند ذلك الحد، لكنهم فوجئوا بصدور بيان سفراء الدول السبع الكبار (كندا، الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، اليابان، إيطاليا، بريطانيا). وشدّد البيان على أن المطالب الأميركية هي مطالب جميع أصدقاء تونس الغربيين الذين تربطهم بها علاقة شراكة وطيدة، والذين يفترض مواصلة الاعتماد عليهم لمواجهة الأزمة الاقتصادية العميقة التي تتخبط فيها البلاد.
الغريب أنه على الرغم من وضوح رسالة السفراء، هناك من بين أنصار سعيّد من عملوا على تأويل ما ورد في هذه الرسالة، واعتبروا أنها جاءت لتدعم قراراته، مستندين في ذلك إلى أن المبادرة لم تتضمن الدعوة الى العودة إلى برلمان ما قبل 25 يوليو أو التمسك بدستور 2014. وبالتالي اعتبروا أن الدول الموقعة على هذا البيان لم ينحازوا إلى حركة "النهضة" وحلفائها، بل وجهوا إليها ضربة قاصمة، حتى أن أستاذ القانون الدستوري رابح الخرايفي ذهب إلى القول إن بيان الدول السبع هو بمثابة "شهادة وفاة النظامين السياسي والدستوري" الحاليين.
وأغفل هؤلاء ما تضمنه البيان من إشارات واضحة إلى مسائل جوهرية مثل "العودة إلى نظام ديمقراطي يكون فيه برلمان منتخب وفاعل" وليس برلماناً خاضعاً لسلطة الرئيس، وأيضاً تعيين رئيس حكومة "وليس وزيراً أول"، و"تشكيل حكومة قادرة على إدارة الملفات"، وإجراء "إصلاحات دستورية وانتخابية تكون نتيجة حوار شامل"، وهو ما يعني تأمين التوافق بين جميع مكونات المجتمع التونسي أحزاباً ومنظمات مدنية. وربط البيان هذه المطالب بمدى استجابة السلطة لها، وفي ذلك محاولة من الدول السبع التدخل بطريقة واضحة، رغم الطابع الدبلوماسي، في الشأن التونسي. ولن يتوقف هذا الضغط الخارجي، إذ سيتولى مبعوث الاتحاد الأوروبي الذي سيزور تونس قريباً التأكيد على نفس المطالب، نظراً لأهمية العلاقات الاستراتيجية التي تربط تونس بالاتحاد، وهو ما يجعلها غير قادرة على أن تسقط من حسابها شريكاً في هذا الحجم والوزن.
تجاهل الاتحاد البرلماني الدولي قرارات سعيّد بفعل اعترافه بشرعية الغنوشي
كما أن الوفد المنتظر أن يرسله الاتحاد البرلماني الدولي إلى تونس قريباً، سيصعّد من موجات الضغط، على اعتبار أن الاتحاد تجاهل قرار التجميد الذي اتخذه سعيّد، ووجّه دعوة رسمية إلى راشد الغنوشي بصفته رئيس البرلمان. وهو من شأنه أن يزيد من إحراج الرئاسة التونسية، نظراً لأنه يمكن للزيارة أن تدعم موقف الرافضين لقرارات 25 يوليو، وقد يؤدي ذلك إلى احتمال قيام برلمان تونسي في خارج البلاد من أجل مواجهة البرلمان الذي ينوي أنصار سعيّد إقامته في الداخل.
أما الملف الثاني الذي أصبح مزعجاً للرئيس، فيتعلق بالحريات، رغم تأكيده المتواصل على كونه ملتزماً بعدم المساس بحقوق الإنسان، إلا أن البيانات والتقارير الصادرة عن منظمات تونسية وأخرى دولية، أثارت الكثير من الغبار حول "السلوك الأمني". وتطرقت التقارير إلى ظروف إيقاف نواب لدوافع سياسية، واضطرار أحدهم (ياسين العياري) إلى الدخول في إضراب عن الطعام، وانتهاك حقوق الدفاع في قضية المحامي مهدي زغروبة، وتفريق محتجين بالقوة في شارع الحبيب بورقيبة، والاشتباك الأمني مع الصحافيين. كل ذلك وغيره دفع بالمنظمات الدولية لحقوق الإنسان نحو العودة إلى الضغط من جديد على السلطات في تونس. هكذا، كلما تأخر الرئيس التونسي في توضيح معالم الطريق، تعددت هذه الأصوات "المزعجة" له، واتسعت رقعتها، خصوصاً إذا ازدادت الأوضاع سوءاً، ولم يشعر التونسيون بتحسن ملحوظ في عيشهم ودعم رغبتهم المشروعة في حياة أفضل.