لم تخل السنوات العشر التي تلت الثورة التونسية من احتجاجات اجتماعية فارقة، كان لها الأثر في تغيير مسارات حكومية أو الإطاحة بمسؤولين محليين، وقد اشتركت جميعها في مطالب التشغيل والتنمية وتحسين الوضع البيئي وتطوير البنى التحتية، وكذلك تطوير أوضاع قطاعات مهنية، بعدما تعثّرت السلطات في تحقيق مطالب الشغل والحرية والكرامة التي أطاحت نظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي، عقب 23 عاماً من الحكم المتواصل.
وخرج التونسيون إلى الشارع أيضاً احتجاجاً على قوانين، واعتراضاً على أفكار سياسية، وعلى تردي الأوضاع الثقافية والبيئية والتعليمية، وكل المكتسبات التي ترسخ مدنية الدولة، ودفاعاً عن حقوق المرأة. ووجه الحراك الاجتماعي في تونس منذ 10 سنوات إلى الحكومات رسائل حادة، غالباً ما واجهتها السلطات بالتجاهل أو الحلول الأمنية، قبل أن تعود إلى المفاوضات بعد أن يبلغ الغضب منتهاه ويسبب لها حرجاً سياسياً.
احتجاجات رفع المظالم
منذ عام 2011، لم يمرّ على تونس عام من دون حراك اجتماعي بارز، إذ بدأت المحطات الاحتجاجية الكبرى في البلاد عقب الثورة مباشرة، وتمثّلت بمطالب استرجاع الحقوق لقطاعات شكت من الظلم قبل الثورة، ومنها عمال المناولة (يعملون بعقود مؤقتة وبأجور زهيدة)، والقطاعات الأمنية. وعرفت الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2012، تحركات كثيرة لعمال المناولة في القطاعين الحكومي والخاص، انتهت بتوقيع اتفاق لإنهاء مختلف أشكال التشغيل وفق هذه العقود وإدماج العمال في المؤسسات التي يعملون فيها.
أحداث الرش
نهاية عام 2012، كانت محافظة سليانة، شمال غرب تونس، على موعد مع واحدة من أبرز الاحتجاجات الاجتماعية "الدامية" التي خلّفت، وفق بيانات رسمية، مئات الجرحى، ولا يزال المتضررون منها ينتظرون أحكاماً قضائية لإنصافهم بعد الضرر الجسدي والمعنوي الذي لحق بهم جراء ما سمّي بـ"أحداث الرش في سليانة". وبدأت القصة حينما نشب يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، خلاف حاد بين الكاتب الخاص للمحافظ إبراهيم الزنايدي حينها، والكاتبة العامة للنقابة الأساسية لموظفي ولاية سليانة سميرة الفرجاني، حول توزيع مساعدات من قبل السلطات المحلية، ما وتّر العلاقة بين الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة والمحافظ، ليعلن الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة، يوم 27 نوفمبر، الإضراب العام للمطالبة بالتنمية والتشغيل وإقالة المحافظ.
عام 2017 كان أكثر الأعوام غضباً بعد الثورة
ويوم الإضراب العام، انطلقت مسيرة شارك فيها 5 آلاف متظاهر من أمام مقر الاتحاد الجهوي للشغل في اتجاه مقرّ المحافظة، واجهتها قوات الأمن بالغاز المسيل للدموع والهراوات قبل أن تستعمل سلاح "الرش" لتصيب أكثر من 250 متظاهراً، مخلفة في أجسادهم أضراراً بليغة.
احتجاج الضرائب الجمركية
بداية عام 2015 كانت ساخنة في أقصى الجنوب التونسي، حيث انتفضت المناطق الحدودية التي تعيش من التجارة البينية مع ليبيا على قرارات حكومة المهدي جمعة، التي فرضت ضريبة جمركية على الأجانب الوافدين إلى تونس والمغادرين لها، تقدر بحوالي 15 دولاراً، وذلك في موازنة عام 2015. ومع بدء تطبيق هذا القرار، مطلع ذلك العام، انطلقت احتجاجات الأهالي في المناطق الحدودية، عندما عمدت الحكومة الليبية إلى التعامل بالمثل، وفرضت الضريبة ذاتها على التونسيين، لتتطور الاحتجاجات إلى مواجهات مع قوات الأمن، انتهت بمقتل شاب، قبل أن تتراجع الحكومة عن تنفيذ بند الضرائب الجمركية لاستعادة الهدوء في المنطقة.
مظلمة رضا اليحياوي تؤجج القصرين
في شهر يناير/ كانون الثاني عام 2016، كانت المظلمة التي تعرّض لها الشاب رضا اليحياوي بسحب اسمه من قائمة ناجحين في مناظرة انتداب (مسابقة دخول إلى وظيفة عمومية)، كافية لتأجيج الوضع في محافظة القصرين (الوسط الغربي)، بعدما أقدم الشاب على الانتحار بتسلق عمود كهربائي وإنهاء حياته بصعقة كهربائية. وقد استمرت الاحتجاجات أمام مقر المحافظة لأيام طويلة انتهت باستيعاب مجموعة من العاطلين من العمل وتوفير بعض الوظائف لهم.
2017... العام الأكثر غضباً
عام 2017 كان أكثر الأعوام غضباً بعد الثورة، إذ شهدت خلاله محافظات جنوبية موجات احتجاج كبيرة، ولا سيما في منطقة الكامور بمحافظة تطاوين، وفي محافظة قبلّي، وكذلك في جزيرة قرقنة، فضلاً عن إعلان مدينة المكناسي في ولاية سيدي بوزيد العصيان المدني لأكثر من شهر.
تعدّ سنة 2019 الأكثر هدوءاً مقارنة بالسنوات التي سبقتها
ويمثل اعتصام الكامور في تطاوين واحداً من أكبر وأهم الاعتصامات التي عرفتها تونس في السنوات الأخيرة، حيث واجهت السلطات موجة غضب عارمة من شباب المنطقة الجنوبية الذين نصبوا الخيام في الصحراء، ومنعوا العمل في كل المؤسسات البترولية لمدة ثلاثة أشهر، حاولت خلالها السلطة فضّ الاعتصام بالقوة، ما تسبب بوفاة الشاب أنور السكرافي.
ودعت حينها مجموعة من النشطاء المساندين للتحركات في الجنوب، لتأميم الثروات الطبيعية، وتحديداً النفطية، أو على الأقل نشر ما يعتبرونه الأرقام الحقيقية لهذه الثروات في البلاد، في مواصلة لحملة "وينو البترول"، التي كانت قد انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي عام 2015، وتلاشت شيئاً فشيئاً في ما بعد.
2018... الاحتجاجات على مشارف العاصمة
لم تنحصر التحركات الاجتماعية في المحافظات الداخلية، إذ سجّلت مدينة طبربة في محافظة منوبة (تونس الكبرى)، في يناير من عام 2018، احتجاجات على تردي الوضع في المنطقة التي تشكو من ضعف التنمية. وقد دامت الاحتجاجات لأيام، وقتل خلالها المواطن خميس اليفرني، الذي قال المحتجون إنه قضى دهساً بعجلات عربة أمنية.
2019... سنة الهدوء النسبي
كان اقتراب الاستحقاقات السياسية، من انتخابات برلمانية ورئاسية عام 2019، بمثابة الأمل المتجدد الذي ساهم في امتصاص غضب الشارع التونسي الذي كان يعلّق آمالاً على تحقيق أهداف الثورة عبر السلطات الجديدة. وتعدّ سنة 2019 الأكثر هدوءاً مقارنة بالسنوات التي سبقتها، إذ لم تسجّل البلاد فيها احتجاجات كبرى، على الرغم من تحركات اجتماعية مطلبية متفرقة.
عودة قوية للاحتجاج
سجلت سنة 2020 عودة قوية للاحتجاجات الكبرى، إذ شهدت البلاد أكثر من 4 إضرابات جهوية عامة في محافظات باجة وجندوبة والقيروان ومدينة الشابة بولاية المهدية. كما سجلت محافظة تطاوين عودة اعتصام الكامور، الذي أطلق عليه اسم "الكامور 2"، احتجاجاً على عدم تنفيذ الحكومة لوعودها منذ عام 2017، وقد تمّ إغلاق المنشآت النفطية مجدداً لنحو ثلاثة أشهر.
سجلت سنة 2020 عودة قوية للاحتجاجات الكبرى
كذلك، اعتصم محتجون في المنطقة الصناعية بولاية قابس الجنوبية، ما تسبب في أزمة غاز الطهو في البلاد، بعد غلق مصانع تعبئة الغاز المنزلي.
في السياق، قال المتحدث الرسمي باسم "منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في تونس، رمضان بن عمر، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ البلاد "تسجل نحو 850 احتجاجاً شهرياً"، مشيراً إلى أنّ "خريطة الاحتجاجات تتوسع من عام إلى آخر". ولفت إلى أنّ "احتجاجات الحوض المنجمي في الجنوب الغربي التونسي، ولا سيما في مدينة قفصة، متواصلة منذ أكثر من 10 سنوات". وأشار بن عمر إلى تسجيل احتجاجات نفذتها قطاعات "نخبوية"، ومنها احتجاجات الأطباء والقضاة والأساتذة الجامعيين والمهندسين، معتبراً أنّ "الغضب ورفض الأوضاع الاجتماعية والسياسية تحوّل إلى حالة عامة بعد 10 سنوات من الثورة".