الأنظمة العربية والقضية الفلسطينية: تعددت الوجوه والعملة واحدة

30 سبتمبر 2020
المقولات الشعبية تؤكد أن التآمر العربي كان في جميع مراحل القضية (آلان بيتون/Getty)
+ الخط -

بخلاف الشعوب العربية، التي تميزت مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، بالصدق والوضوح، والتي قدمت، وما زالت، للفلسطينيين وكفاحهم، شتى أشكال الدعم، وأعلنت/ وما زالت تعلن، رفضها الاعتراف بإسرائيل، فقد اتسمت مواقف الأنظمة العربية، بالبراغماتية والنفاق، وهيمنة الأقوال والشعارات (القومجية والإسلاموية و...الخ) بدلاً من الأفعال. ولم تكن قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته، والصراع مع إسرائيل، بالنسبة لها، الممانعة منها وغير الممانعة، إلا ورقة للاستهلاك الداخلي (تخدير الشعب والالتفاف على مطالبه في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية و...الخ) أو للمساومات الخارجية.
في روايتهم لأسباب هزيمة الجيوش العربية في العام 1948 تحضر في الخطاب الشعبي الفلسطيني مقولات تآمر الأنظمة وفسادها و...الخ، والتي تحمل تلك الأنظمة مسؤولية ضياع فلسطين. وهي مقولات، لا تؤكدها الوقائع فحسب، بل المعلومات التي تسربها الأنظمة نفسها، كلما دب الخلاف في ما بينها.
لا يتسع المجال هنا، للسرد التاريخي والتفصيلي والتحليلي لجميع مواقف الأنظمة العربية منذ النكبة وحتى الآن، ولكن بالإمكان التوقف عند بعض المحطات في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.
بتاريخ 29 تشرين الثاني من العام 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين. عربياً، قوبل القرار بغضب شعبي، عبرت عنه التظاهرات، وعكس نفسه على الأنظمة بإعلانها رفض القرار، وعقد النية لإسقاطه بالقوة. فبادرت جامعة الدول العربية (التي تأسست في القاهرة بتاريخ 22 مارس/آذار 1945 وضمت سبع دول هي مصر وسورية ولبنان والعراق والسعودية والأردن واليمن) إلى تشكيل ما سمي بجيش الإنقاذ، وتكليف لجنة عسكرية لمتابعة موضوع المتطوعين وتجهيزهم بالسلاح. وكان ثمة خلاف بين الأنظمة حول ضرورة تدخل الجيوش النظامية، أو الاكتفاء بالمتطوعين.

تشير الوثائق إلى أن العصابات الصهيونية كانت ستبادر إلى الحرب لو لم يبادر العرب إليها

في 14 مايو/أيار 1948 أي عشية انتهاء الانتداب البريطاني، أعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل، وفي اليوم التالي دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين. فكان ما كان من هزيمة ونكبة؟!
لا شك أن القادة الصهاينة قد جهزوا أنفسهم جيداً لهذا اليوم. وتشير الوثائق إلى أن العصابات الصهيونية كانت ستبادر إلى الحرب لو لم يبادر العرب إليها، وأن عدد المقاتلين الصهاينة المجهزين والمدربين كان أكثر بحوالي 3 مرات من الجيوش العربية. مع ذلك، فإن الجيش العربي كان متقدماً عندما أجبر وبقرار من مجلس الأمن في 11 حزيران 1948 على القبول بالهدنة الأولى التي استغلتها القوات الصهيونية من أجل التزود بالسلاح وتعزيز دفاعاتها.
فإذا علمنا، أن قيادات الجيش الأردني الذي شارك في حرب فلسطين، كانت من البريطانيين (غلوب باشا وغيره) أمكننا فهم ما قيل من أن ملك الأردن عبد الله الأول كان موافقاً على قرار التقسيم، وأنه دخل الحرب بهدف تثبيت الحدود التي رسمها ذلك القرار، وضم الضفة الغربية إلى مملكته.
أما الجيش المصري، فقد دخل الحرب ومصر ما زالت تحت الانتداب البريطاني الذي استمر حتى العام 1956. فإذا أضفنا لذلك، صراعات حكام العرب في ما بينهم على الزعامة والنفوذ، أمكننا تصور انعكاس ما سبق على مجريات الحرب في فلسطين.
في روايتهم لما حصل في فلسطين، منذ صدور قرار التقسيم وحتى النكبة، يتبنى الفلسطينيون رواية آبائهم وأجدادهم، حول مقاومتهم للعصابات الصهيونية، واستبسالهم في الدفاع عن أرضهم، والأساليب الإجرامية والوحشية التي مارستها العصابات الصهيونية. وتؤكد الوقائع الموثقة أن طرد الفلسطينيين تم وفق خطط معدة سلفاً، وبوسائل العنف والقتل والتطهير العرقي والمجازر. ففي 10 مارس/آذار 1948 اعتمدت القيادة الصهيونية الخطة دالت والتي بموجبها تم تدمير مئات المدن والقرى وتهجير سكانها (بلغ عدد القرى المهجرة حوالي 530 قرية، وعدد المهجرين حوالي 800 ألف فلسطيني، وعدد القتلى 15 ألفا). أما عدد المذابح الموثقة فقد بلغ أكثر من 50 (دير ياسين، اللد، الرملة، الدويمة، عيلبون، الجش، مجد الكروم....الخ).

المفارقة هنا، أن المؤرخين الإسرائيليين الجدد من أمثال إيلان بابيه (يمكن العودة إلى كتابه التطهير العرقي في فلسطين) يؤكدون صحة الرواية الفلسطينية، بينما لا يتوانى العديد من الأنظمة العربية عن تشويه الرواية الفلسطينية

أما الرواية الإسرائيلية، فتقول إن العصابات الصهيونية لم تستخدم العنف ضد المدنيين، وإن الفلسطينيين خرجوا بمحض إرادتهم، وبطلب من القادة العرب (في رسالة ماجستير أعدها عام 2010 محمد منصور عبد العزيز أبو شعر، ينقل عن الباحث البريطاني ارسكين تشلدرز Erskine Childers قوله: "راجعت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) جميع تسجيلات إذاعات الشرق الأوسط سنة 1948، وكذلك السجلات والأدلة لوحدة مراقبة أميركية في المتحف البريطاني ولم نعثر على أمر أو نداء واحد، أو إيحاء يتعلق بمغادرة فلسطين من أية إذاعة عربية داخل فلسطين وخارجها سنة 1948م، وإنما توجد تسجيلات لنداءات عربية متكررة للمدنيين الفلسطينيين للبقاء في وطنهم".
المفارقة هنا، أن المؤرخين الإسرائيليين الجدد من أمثال إيلان بابيه (يمكن العودة إلى كتابه التطهير العرقي في فلسطين) يؤكدون صحة الرواية الفلسطينية، بينما لا يتوانى العديد من الأنظمة العربية عن تشويه الرواية الفلسطينية، وترديد الرواية الإسرائيلية وتسويقها، لتبرير عجزها وتقاعسها في الصراع مع إسرائيل، أو تطبيعها معها. 
بعد النكبة/ قيام إسرائيل، تحولت القضية الفلسطينية إلى لاعب أساسي في الحياة السياسية العربية. فحضرت بقوة لدى الشعوب العربية. وصار تحرير فلسطين هدفاً من أهداف القوى السياسية، اليسارية والقومية و...الخ. ولم تكن غائبة عن التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية (الإطاحة بالنظام الملكي في كل من مصر والعراق، الوحدة السورية المصرية، استلام حزب البعث للسلطة في كل من سورية والعراق، تأسيس منظمة التحرير وانطلاق الثورة الفلسطينية،...الخ). بذريعة تحرير فلسطين، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، مارس العديد من الأنظمة العربية، سياسة كم الأفواه، وقمع الحريات، ومصادرة الحياة السياسية، ناهيك بالنهب والاستغلال وتوليد الظواهر السلبية وتكريسها، كالفساد والمحسوبية و...الخ. فإذا أضفنا لكل ذلك صراعات الأنظمة في ما بينها، والصراعات الداخلية ضمن كل نظام، أمكننا القول، إن هذه الأنظمة، قد هيأت الظروف المناسبة، والأسباب الكافية لهزيمة جيوشها أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967. باستثناء مبادرة عبد الناصر اللفظية للاستقالة، والتي نظر إليها كمسرحية انتهت بانتحار عبد الحكيم عامر وبقاء عبد الناصر في السلطة حتى وفاته عام 1970، كان رد فعل الأنظمة العربية على الهزيمة هو الاتهامات المتبادلة في ما بينها من جهة، وبين الأجنحة المتصارعة في كل نظام، من جهة أخرى (في سورية، حمل وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد، مسؤولية الهزيمة بسبب قراره سحب الجيش، وإعلانه سقوط مدينة القنيطرة، قبل سقوطها الفعلي، وتأخره عن دعم الجيش الأردني). أما رد فعل الفلسطينيين على نكسة حزيران، فقد عبر عنه استمرار العمليات الفدائية ضد إسرائيل التي بادرت في 21 آذار 1968 إلى شن هجوم عبر الأراضي الأردنية، تمكنت المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني من إفشاله وتكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في معركة الكرامة التي كان من نتائجها تزايد قوة الثورة الفلسطينية وحضورها وسلطتها على الساحة الأردنية، الأمر الذي أدى في عام 1970 إلى الصدام مع النظام الأردني، وخروج المقاومة الفلسطينية إلى ساحة ارتكاز جديدة هي لبنان.

تحولت القضية الفلسطينية إلى لاعب أساسي في الحياة السياسية العربية

في عام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، والتي كانت حرباً بين مشروعين، أحدهما وطني، والآخر طائفي. كان يفترض بنظام ينادي بالعروبة وتحرير فلسطين وغيرها من الشعارات القومجية والوطنية أن يقف إلى جانب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. لكن، وبسبب تناقض مصلحته، كنظام استبدادي، مع قيام نظام وطني وديمقراطي في دولة مجاورة، ولتحجيم دور المقاومة الفلسطينية والحد من نفوذها، فقد انحاز النظام الأسدي للقوى الطائفية في لبنان. وبغطاء من جامعة الدول العربية، وبموافقة أميركية، ورضى إسرائيلي، قام بالتدخل العسكري لإجهاض مشروع التغيير الوطني الديمقراطي في لبنان. وشارك في ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين(تل الزعتر،...). وفيما بعد، وفي إطار مسعاه لإضعاف المقاومة الفلسطينية، والإمساك بالورقة الفلسطينية، استمر نظام الأسد في تكرار مواقفه المتناقضة مع شعاراته الوطنية والقومية (إبان اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 وحصارها لبيروت، اتخذ النظام السوري موقف المتفرج. وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، لعب دوراً أساسياً في انشقاق حركة فتح، واعتقل الآلاف من كوادرها. كما دعم حركة أمل في حربها ضد الفلسطينيين وحصارها للمخيمات في لبنان. أما آخر إنجازاته الوطنية والقومية بحق القضية الفلسطينيين فكان تدمير مخيم اليرموك، الذي يعد أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في العالم، وتهجير سكانه؟!).
في عام 1978 وقع النظام المصري وإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد. ولتبرير ما أقدم عليه نظام السادات، ومن أجل امتصاص غضب الشارع المصري، ركزت أبواق النظام على إبراز النصر الكبير الذي تحقق باسترجاع سيناء، وإطلاق الوعود للمصريين بتنمية بلدهم وتحسين مستوى معيشتهم، نتيجة إنهاء الصراع مع إسرائيل(الذي استنزف موارد مصر وطاقاتها)، وتدفق المساعدات الخارجية. والتأكيد على أن مصر سوف تحافظ على حضورها وقوتها بعد السلام الذي سيعم المنطقة العربية كلها، و...الخ. لكن، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على توقيع تلك الاتفاقية، لم يتحقق للمصريين ما وعدوا به من تنمية ورخاء، بل إن أوضاعهم المعيشية ازدادت سوءاً، وأغرقت مصر بالديون، وتراجع دورها في المنطقة. وبدلاً من أن يعم السلام المزعوم، استمرت حروب إسرائيل العدوانية وسياساتها الاستيطانية والعنصرية. 
لكن ماذا عن موقف النظام العربي من اتفاقية كامب ديفيد؟
في أعقاب زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل، وبعد توقيعه لاتفاقية كامب ديفيد، قررت معظم الأنظمة العربية مقاطعة مصر، وتعليق عضويتها في الجامعة. حقيقة الأمر أن هذه الأنظمة لم يكن خلافها مع نظام السادات على جوهر رؤيته لحل الصراع العربي الإسرائيلي. فجميع الأنظمة لا تعترض على قراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين يقران بحق إسرائيل في الوجود ضمن حدود 1948. والنظام السوري شارك في مؤتمر مدريد للسلام الذي استند إلى هذين القرارين. لذلك، وبعد عشر سنوات، وعلى رغم تمسك النظام المصري باتفاقية كامب ديفيد ، فقد أنهت الأنظمة العربية، الممانعة منها وغير الممانعة، قطيعتها له، وعادت القاهرة من جديد، لتكون مقراً لجامعة الدول العربية. اليوم، ونحن نعيش أجواء احتفالات بعض الأنظمة العربية، الإمارات والبحرين، بالتطبيع مع إسرائيل، وبينما تتلقى هاتان الدولتان، رسائل تهنئة بهذا "الإنجاز العظيم"، من أنظمة عربية عديدة، تصمت أنظمة الممانعة (النظام السوري نموذجاً) صمت القبور؟! لذلك يصح القول إن الأنظمة العربية، الممانعة والمطبعة، هي وجوه متعددة لعملة واحدة، نقش عليها، الاستبداد، الفساد، التبعية، المتاجرة بالمسائل الوطنية والقومية، والتشبث بالسلطة، ولو كان الثمن، بيع فلسطين والقضية الفلسطينية

المساهمون