احتجاجات طرابلس: استغلال سياسي لانتفاضة فقراء الشمال اللبناني

30 يناير 2021
من آثار المواجهات والحرائق في المدينة (حسام شبارو/الأناضول)
+ الخط -

لا يخفي هدوء مدينة طرابلس (شمال لبنان) خلال ساعات النهار، نيران الغضب التي تشتعل ليلاً منذ الإثنين الماضي، ووصلت ذروتها ليلة الخميس، مسجلة سقوط أكثر من مائة جريح في صفوف المتظاهرين والأمنيين والعسكريين، بالتوازي مع إحراق مبنى بلدية المدينة وأعمال تخريب طاولت بعض المؤسسات. وفيما تركز شعارات المحتجين على رفض قرارات الإغلاق العام لمواجهة تفشي كورونا، خصوصاً في ظل غياب أي تقديمات من قبل الدولة، والتنديد بغياب فرص العمل وتراجع الأوضاع المعيشية، تختلف القراءات لما يجري في الشارع، بين من يرى أن غضب الأهالي وصل إلى حد الانفجار وفاق قدرة التحمّل بعد عقود من الحرمان والتهميش، وبين من يعتبر أن افتعال أعمال الشغب خلال الاحتجاجات الشعبية أمر مدبر وغير عفوي، وذلك ضمن محاولات قديمة متجددة لاستغلال كل تحرك في طرابلس واستخدامها صندوق بريد للرسائل السياسية والأمنية. ولم تخفِ بعض المواقف التي أعقبت أحداث الخميس خطاباً يسعى إلى شيطنة المدينة وأهلها، على غرار مرات عدة سابقة. وبين كل ذلك برز تهديد بالأمن الذاتي من قبل بعض فعاليات المدينة الشمالية، الذين غاب معظمهم عن مساعدة المنطقة التي تضم عشرات الأغنياء. لكن مهما اختلفت القراءات والاتهامات والتهديدات، يبقى الواضح أن كل طرف يسعى لاستغلال انتفاضة الفقراء لمصلحته.

وعاد الهدوء إلى طرابلس، صباح أمس الجمعة، بعد ليلة مواجهات ساخنة سقط خلالها أكثر من مائة جريح، ليصل عدد الضحايا إلى قتيلين وما يزيد عن 300 مصاب خلال أربعة أيام من الاحتجاجات الليلية. وكانت ليلة الخميس الأقسى، إذ طغت عمليات الكر والفر بين المحتجين والقوى الأمنية، في ساحة النور وسط المدينة ومحيطها وأمام سرايا طرابلس وعددٍ من المؤسسات والمراكز التابعة للدولة، قبل أن ترتفع وتيرة الاشتباكات العنيفة التي استمرّت لساعاتٍ طويلة، بعد محاولة مشاركين في الاحتجاجات الدخول إلى السرايا وخلع الباب الرئيسي ورمي قنابل المولوتوف واليدوية والمفرقعات النارية إلى داخل المبنى، فأتى الردّ من القوى الأمنية بفتح خراطيم المياه على الشبان وإلقاء القنابل المسيلة للدموع لإبعادهم، بل وسُجل استخدام للرصاص المطاطي والحيّ. وعمد محتجون في ساعات الليل إلى إحراق مبنى بلدية طرابلس، عبر رشقه بقنابل المولوتوف، وطاولت الاعتداءات المحكمة السنية الشرعية ومركز العزم التربوي (التابع لرئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي) وغيرها من المنشآت الخاصة والرسمية.

سُجل استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين ليسقط قتيلان

انعكاسات ما حصل ليل الخميس برزت أمس في خطابات تصعيدية وصلت حد التلويح بالأمن الذاتي، فميقاتي، أحد أبناء المدينة وممثلها لفترات طويلة في البرلمان، قال في حديث تلفزيوني أمس "إذا لم يقم الجيش بحمايتنا وحماية أبناء طرابلس، فإن ذلك يعني أن نحمي أنفسنا بأنفسنا، وإذا لم يتم حل الموضوع فإنني أحذّر من أننا قد نذهب لوضع على قاعدة كل واحد يحمي حالو". من جهته، قال رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، إن المجموعات المشاركة في تحركات طرابلس أتت من خارج المدينة، مضيفاً "إذا لم يكن هناك حل لأمن المدينة فإننا سنأخذ القرار على عاتقنا ونتحمل المسؤولية".

أما الرئيس اللبناني، ميشال عون، والذي لم يكن قد دعا حتى عصر أمس، المجلس الأعلى للدفاع، إلى الانعقاد لبحث الوضع الأمني، فطلب التحقيق في ملابسات ما جرى والتشدد في ملاحقة الفاعلين الذين اندسوا في صفوف المتظاهرين السلميين وقاموا بأعمال تخريبية. أما رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، فدان "الأحداث التي وقعت في طرابلس وتوظيف ساحات المدينة لتوجيه رسائل سياسية نارية"، لافتاً إلى أن "ما حصل ليس جراء المطالب الشعبية". من جهته، تساءل رئيس الوزراء المكلف، رئيس تيار "المستقبل"، سعد الحريري، "لماذا وقف الجيش اللبناني متفرجاً على إحراق السرايا والبلدية والمنشآت، ومن سيحمي طرابلس إذا تخلّف الجيش عن حمايتها؟". وأضاف "إذا كان هناك مخطط لتسلل التطرف إلى المدينة فمن يفتح له الأبواب؟".

ميقاتي: إذا لم يقم الجيش بحمايتنا فذلك يعني أن نحمي أنفسنا

وتعليقاً على ذلك، يقول الناشط مصباح السكت، وهو من أبناء المدينة التي شاركت بفعالية في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، لـ"العربي الجديد"، "لن نخرج من الشارع قبل تحقيق مطالبنا، على الرغم من علمنا أننا نصرخ لدولة وقحة تصمّ آذانها لصوت الناس ووجعهم". ويعرب عن رفضه لأعمال الشغب التي حصلت، متابعاً "نحاول قدر المستطاع السيطرة على الوضع وسلمية التظاهرات، لكن مع ازدياد الأوضاع المعيشية والاقتصادية سوءاً، وارتفاع معدل الفقر والجوع والبطالة إلى مستويات قياسية، يصبح من غير الجائز التوقف عند التكسير والاعتداءات، فالشعب غاضب من الدولة".

وعن أسباب تفجّر الأوضاع في طرابلس، يشير الصحافي صهيب جوهر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن المناطق الشعبية في طرابلس، خصوصاً باب التبانة، باب الرمل، المنكوبين، جبل محسن وغيرها، تعاني من تسرب مدرسي يصل إلى 80 في المائة، إضافة إلى بطالة تفوق نسبتها الـ59 في المائة، وستين في المائة تحت خط الفقر المدقع، وفق التقارير الدولية. ويضيف أن هذه الأرقام تدل على ثابتة رئيسية أن كل ما يحدث في المدينة من تحركات وردود فعل ميدانية هو نتيجة إهمال الدولة وعدم وجود سياسات اجتماعية وإنمائية واقتصادية، علماً أن الإهمال ليس عبثياً بل ممنهج، فللمدينة الكثير من مقومات النهوض والمزايا التي يمكن أن تنتشلها من حال الفقر، لكن القوى السياسية وفعاليات المنطقة متواطئة بالتهميش ومجرمة بحق عاصمة الشمال ولم تنفذ الوعود التي أطلقتها على صعيد الإنماء والنهوض الاقتصادي.

ويشير الصحافي الطرابلسي، إلى أنه يكفي زيارة المناطق الشعبية حتى نرى النقمة والغضب اللذين تفاقما نتيجة الإقفال العام في البلاد الذي لم تقابله الدولة بسياسات رعاية حقيقية للمياومين والعمال الذين يعتمدون على الدخل اليومي. ويرى أن موضوع الاستغلال السياسي للتحركات طبيعي، وطرابلس خاصرتها رخوة في هذا الإطار، فكانت محكومة طوال سنوات من قادة أجهزة أمنيين مجرمين بحق المدينة استغلوا وثائق الاتصال وأوراق أشخاص مطلوبين في محاور القتال بين باب التبانة وجبل محسن كانوا هم أنفسهم غضوا الطرف عنها سابقاً، ملخصاً ما يحدث من أعمال شغب واعتداءات على المنشآت العامة والخاصة، بصراع الأجهزة، ولا سيما بين "المستقبل" و"التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل. في المقابل، يتوقف جوهر عند التحذيرات من مخطط أمني، والعودة إلى نغمة وصم المدينة بـ"قندهار"، والمؤامرات السياسية، مؤكداً أن لا بيئة حاضنة للتنظيمات الإرهابية في طرابلس، التي مرّت بأصعب الأيام ورفضت هذه المجموعات.

من جهتها، تقول الكاتبة والباحثة نهلة الشهال، لـ"العربي الجديد"، إن أصعب من شعور البؤس الموجود عند أهالي طرابلس، هو الشعور بأنها متروكة، ولا أحد يسأل عنها، سواء من في الحكم أو من الطامحين للوصول إلى السلطة، فالناس في عاصمة الشمال "جوعانة" بالمعنى الحرفيّ. وحول أحداث ليل الخميس، والاعتداءات التي طاولت منشآت رسمية وخاصة وتربوية، ترى الشهال أنه عمل تخريبي مقصود لدفع طرابلس نحو الهاوية والخراب، وهي أصلاً تفقد عناصر كونها مدينة، وبالأمس أتى من أحرق البلدية التي هي مرجع والناس فخورة بالمبنى القديم والتاريخي، علماً أنّ من أحرق المبنى هي مجموعة صغيرة لا دخل لها بالمحتجين والمتظاهرين، ولم يتحرك أحد لردعها. وتضيف أن الأهالي فقدوا الثقة بالسياسيين، فهؤلاء تجار همّهم الحصول على المناصب التي هي باب للمكاسب، فيما وضع البلد أفظع من الاهتمام بالاتهامات المتبادلة بينهم، معتبرة أن هناك ضرورة لإعلان طرابلس مدينة منكوبة، ولكن المسؤولين لا يحبذون ذلك لما لهكذا إعلان من تبعات على صعيد المساعدات.

المساهمون