لم تتّبع السلطات الإسرائيلية نمطًا واحدًا لأسرلة الشباب الفلسطيني داخل الخطّ الأخضر، فتميّزت خلال سنواتها الأولى بمحاولة فرضها في جهاز التعليم العربي أو عبر السلطات المحليّة، ففرضت مثلاً الخدمة العسكرية الإلزامية على العرب عام 1954 في الجيش الإسرائيلي قبل أن تتراجع عنها لاحقاً. أمّا المرحلة الثانية، وهي الأسرلة بالإغراء، فتلت هبّة القدس والأقصى، وهو الاسم الذي يطلق على فعاليّات الانتفاضة الثانية داخل الخطّ الأخضر، وتميزّت بالبرامج المغرية، أكاديميًا وماليًا، بدلا من فرضها عبر قوانين.
الأسرلة بالإكراه: "التقيّة" ريثما يحدث شيء!
بعد النكبة، فرضت السلطات الإسرائيلية حكماً عسكرياً على المثلث والجليل والنقب استمرّ 18 عاماً، ولسنوات أقلّ على ما تبقّى من الأحياء العربيّة في يافا وعكا وحيفا والرملة واللد والمجدل. منح الحاكم العسكري صلاحيّات واسعة، منها منح المواطنة الإسرائيليّة أو سحبها والطرد إلى خارج الدولة الجديدة، بالإضافة إلى صلاحية ترخيص البيوت وهدمها. والحال كذلك، نشأت "علاقة اضطراريّة" بين العرب، الذين وجدوا أنفسهم أقليّة داخل دولة قامت على أنقاض بلداتهم وعلى نفيهم وقتلهم والسيطرة على أراضيهم وعلى قطعهم عن امتدادهم الطبيعي في فلسطين والوطن العربي.
وتدخّل الحاكم العسكري في أمور الحياة اليوميّة، خصوصاً العمل خارج البلد، فبيده منح تصاريح للعمال لمغادرة مناطقهم إلى مناطق أخرى، ووجد نفسه يتدخّل في حياة العرب اليومية. كما كانت للحاكم العسكري صلاحيات إعلان حظر التجول وإغلاق البلدات وحتى ارتكاب المجازر، مثل مجزرتي كفر قاسم (يوم العدوان الثلاثي على مصر) ومجزرة صندلة، التي راح ضحيّتها 15 طفلاً، من أصل 45 طفلاً في كل البلدة، كانوا في طريق عودتهم من المدرسة عام 1957.
أمّا العرب، فكانوا عام 1949 "مرتبكين، معزولين، منقسمين ومذعورين"، بحسب ما وصفهم عام 1959 مستشار رئيس الحكومة الإسرائيليّة للشؤون العربيّة، وهو المسؤول عن الحكم العسكري. في ظروف اجتماعية وسياسيّة سيّئة، فقراء جداً، معظمهم من الفلاحين الذين فقدوا أراضيهم فأضحوا بلا معيل ولا عمل. لا مدينة تضمّ نخبتهم السياسية والثقافيّة، ولا نخبة من هذا النوع أصلاً.
تقوم هذه "العلاقة الاضطراريّة" التي نشأت على "التقية" أمام السلطات الإسرائيليّة: المشاركة في احتفالات استقلال إسرائيل وتملّق الحاكم العسكري – الذي غذّى الانقسامات الطائفية والعشائرية - عبر العزائم والولائم، في مقابل هدف أكبر، هو التشبّث بالأرض ومنع تهجير المزيد من الفلسطينيين إلى الجوار. فيحفل أرشيف الدولة الإسرائيلي بفيديوهات من احتفالات المدارس خصوصاً بأيّام استقلال إسرائيل الأولى، عبر إنشاد أناشيد احتفاليّة مثل "عيد استقلال بلادي، غرّد الطير الشادي" أو "رفرفي خافقَ الأعلامِ"، فرض على المدرّسين والمخاتير المشاركة فيها. كما شهدت سنوات الحكم العسكري مشاركة مطلقة في انتخابات الكنيست والتصويت لصالح حزب "مباي" والأحزاب المتحالفة معه. أمّا البلدات التي لم تشارك في هذه الاحتفالات والجولات الانتخابيّة، فكان نصيبها متأخراً من الكهرباء والبنى التحتية نوعاً من العقاب الجماعي للأهالي.
وركّزت مناهج التعليم على الحركة الصهيونيّة باعتبارها "حركة تحرّر وطني"، وامتُحن الطلاب العرب في منتجات أحاد هعَام ونحمان بياليك، وغيرهما من مثقّفي الحركة الصهيونيّة، أكثر مما عرفوا شعراء العرب. كما دُرّس في المدارس نشيد "من ينقذنا من الجوع؟ من يطعمنا الخبز الكثير؟ ومن سيُشربنا كأس الحليب؟ لمن الشكر؟ لمن التبريكات؟ للعمل وللحرف!" وهو نشيد صهيوني معروف لمدح الحركة العمالية الصهيونيّة.
غير دماء الفلسطينيين التي سالت والقرى التي هُجّرت والأراضي التي صودرت، كانت نتيجة هذه المرحلة ضئيلة سياسياً، ولم تُسجّل فيها مثلاً نسب مرتفعة من التحاق العرب بالجيش الإسرائيلي، رغم أن الخدمة العسكرية الإلزامية فرضت على العرب عام 1954، قبل أن تتراجع عنها السلطات لاحقاً لتشمل العرب الدروز فقط.
وانتهى "الحكم العسكري" عام 1966، عشيّة النكسة، بسبب النضال الشعبي أولاً، ولكن أيضاً بسبب الانتقادات الإسرائيليّة الداخلية، لحسابات سياسية داخلية، منها استغلال حزب "مباي" إجبار العرب على التصويت لصالحه لضمان استمراره في الحكم؛ وبسبب الخشية من أن يستفزّ العرب إلى مزيدٍ من العداء إلى إسرائيل، وهو ما أقرّ به حتى يغئال ألون، القائد العسكري في النكبة، والوزير لاحقاً. بالإضافة إلى الاقتناع الإسرائيلي بعدم توفّر ظروف ترانسفير جماعي للعرب في هذه المرحلة.
ويثبت يوم الأرض الخالد عام 1976 أنّ مرحلة "الأسرلة القسريّة" لم تفضِ إلى تخلّي العرب عن هويتهم الوطنية والقومية، فعمت التظاهرات البلاد ضدّ مصادرة الأراضي وسقط 6 شهداء.
ويعود سبب فشل سياسات "الأسرلة القسريّة" هذه إلى تقاطع عاملين مهمّين، هما العنصرية الإسرائيليّة التي لم تسعَ إلى إدماج العرب بشكل كامل في الدولة لأنها دولة اليهود فقط، ولا مكان للعرب فيها؛ وصعود القومية العربيّة ممثّلة في جمال عبد الناصر، التي عزّزت الشعور القومي لدى العرب.
الأسرلة بالإغراء
شكّلت "هبّة القدس والأقصى"، وهو الاسم التي يطلق على التّظاهرات داخل الخطّ الأخضر في الانتفاضة الثانية، صدمةً لإسرائيل، ونبّهتها إلى أنّها لم تنجح في تدجين مواطنيها العرب، الذين وجدوا أنفسهم في سنّيهم الأخيرة على هامش المشروع الوطني الفلسطيني، بعدما اعتبرهم اتفاق أوسلو جزءاً من المجتمع الإسرائيلي، واستخدمتهم السلطة الفلسطينيّة لمحاولة التأثير انتخابياً في إسرائيل؛ بالإضافة إلى وجودهم على هامش إسرائيل، نظراً لبنيتها العنصريّة.
بدأت إسرائيل بعد الهبّة مسارين متوازيين: دمج اقتصادي على مستوى شخصي لمواطنيها العرب، عبر استغلال الطاقات الشبابيّة الهائلة بدءاً من قطاع البناء وليس انتهاءً بقطاعات الهايتك والطب؛ بالإضافة إلى "تحصين نفسها" بقوانين أكثر عنصريّة، مثل "قانون القوميّة" و"قانون النكبة" وغيرهما.
وكان لافتاً خلال السنوات التي سبقت "هبّة القدس والأقصى" انطلاق خطاب "دولة كل مواطنيها" الذي جاء به "التجمع الوطني الديمقراطي" (1995) ومؤسسه د. عزمي بشارة، لتحدّي الجوهر الصهيوني لدولة اليهود حيث إنه يبرز تناقضات داخل التيارات الصهيونيّة مثل أنها ليست دولة لجزء من مواطنيها (العرب) في مقابل أنها دولة لأشخاص ليسوا مواطنيها (يهود العالم)، بالإضافة إلى إبراز التناقض بين المركب الديمقراطي وبين المركب الصهيوني فيها. لاقى هذا الخطاب رواجاً كبيراً، أقلق السلطات الإسرائيلية وخصوصاً جهاز الأمن العام (الشاباك) الذي دعا إلى حظره لأنه "يهدّد الطابع اليهودي للدولة" ولأنه "على المدى البعيد يمكن أن يسرّع من الميول الانفصاليّة والمتطرّفة في صفوف هذا الجمهور (العربي) وأن يزيد في داخله تأييد إلغاء الطابع اليهودي والصهيوني للدولة".
وعمدت السلطات الإسرائيلية إلى إلغاء طابع التحدّي لطرح "دولة كل مواطنيها" وإفراغه من أي مضمون سياسي، فقدّمت مشروع الخدمة المدنيّة، الذي تقول فيه للمواطنين العرب إن كنتم تريدون "دولة كل مواطنيها"، فابدأوا أنتم بالخدمة العسكرية، أو على الأقلّ، بالخدمة المدنية، التي تروّج السلطات لأنّها خدمة المسنيّن مثلاً أو المحتاجين، لكنّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسة العسكرية.
الخطورة في هذه الفكرة أنها تربط بين الحقوق والواجبات، وأنّها تقدّم امتيازات لمن يتوجه للخدمة المدنية، مثل المساعدة في القبول لمسارات معيّنة للجامعات أو تسهيلات مالية بسيطة، وأنّها تخاطب الجيل اليافع، أي الطلاب في المدارس الثانوية، قبل أن يتكوّن لديهم وعي سياسي قادر على كشف ما يقف وراء مشاريع كهذه. وتحيط بالموضوع، أيضاً، خطورة سياسيّة، إذ إنها تحوّل مشروع "دولة كل مواطنيها" من أزمة عند الدولة نفسها حول طابعها إلى أزمة مختلقة عند العرب أنفسهم وحول العلاقة التي يريدونها مع الدولة، وتصوير أنهم "مقصّرون" تجاه الدولة، وليست هي العنصريّة تجاههم.
ويطرح هنا سؤال ليس بسيطاً: إن كانت إسرائيل تزداد عنصريّة عاماً بعد آخر وقانونًاً بعد آخر، فلماذا تقدّم للعرب مشاريع لأسرلتهم أو على الأقلّ لدمجهم؟
وفي ما يلي محاولة للإجابة: بالإضافة إلى المنافع الاقتصادية وعدم قدرة إسرائيل على تحمّل قرابة مليوني شخص في حالة فقر وإقصاء شخصي ما سيلقي بظلاله على اقتصادها، فإنّ الهدف من هذه المشاريع هو إبعاد الشباب الفلسطيني عن ارتباطاته القوميّة والحيلولة عبر تكريس النجاة الفرديّة، لا النجاة الجماعيّة، أي أنها تريد الفلسطينيّ منزوعاً من فلسطينيّته الجماعية والهويّاتيّة (لا بأس بالفلكلوريّة أحياناً، في سبيل الترويج لتنوّع المجتمع الإسرائيلي).
الصورة التي تريدها إسرائيل لمواطنيها العرب: الابتعاد عن هويّتهم قدر الإمكان لكن عدم الاقتراب من جوهر الدولة الصهيونيّة لتفكيكه، أي خلق "عربي إسرائيلي" مشوّه، عبر ردّه إلى انتماءاته الأولى الطائفيّة والعشائريّة والجهوية. والحال كذلك، تنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي صفحات إسرائيليّة مؤخراً تخاطب "العربي المسلم" ومنتديات لمخاطبة "العربي المسيحي".
الأخطر، بخلاف الأسرلة الأولى، أنّ هذا الخطاب الإسرائيلي يتقاطع مع خطاب تحمله قيادات في القائمة المشتركة "هو التأثير في كل مكان"، عبر البحث عن تحالفات مع الأحزاب الإسرائيليّة مع تجاهل البعد القومي، تارةً عبر وهم بناء "تحالف طبقي" مع الأحزاب الحريديّة، التي انقلبت على الأحزاب العربية في قانوني "القوميّة" و"المؤذّن"، وتارةً أخرى عبر البحث في المجهر عن اختلافات (غير موجودة) تجاه العرب والقضيّة الفلسطينيّة عند معارضي نتنياهو، انتهى إلى التوصية بالجنرال بيني غانتس رئيساً للحكومة الإسرائيليّة، رغم تصريحه علناً برفضه "إلغاء قانون القوميّة" أو حتى الاعتراف بالعرب والفلسطينيين، فلا يخاطبهم إلا بكونهم "غير يهود"، ويضاف هذا إلى خطاب جديد - قديم يبدو أن بدأ يسيطر على خطاب هذه القيادات، وهو احتفاؤهم بالإنجازات الفرديّة لشخصيّات عربيّة حتى أصبحت صفحات بعض النواب أشبه بلوحة مباركات في الصحف؛ واحتفاؤهم بالإنجازات الخدميّة مثل فتح فرع بريد في بلدة عربية أو مكاتب لمؤسسات رسميّة، أو حتى حثّ العرب على التظاهر مع الإسرائيليين ضدّ تهم الفساد الشخصيّة التي تلاحق بنيامين نتنياهو في القدس أو تل أبيب، عبر تجاهل أي بعد قومي لانخراط من هذا النوع.