من بين 7 آلاف منظمة مجتمع مدني في العراق تأسست عقب الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، هناك نحو 4 آلاف منظمة مسجلة في دائرة المنظمات غير الحكومية التابعة للحكومة العراقية في بغداد، بينما تعمل الأخرى من دون ترخيص ولا تُعرف مصادر تمويلها. لكن في المجمل فإن عدداً قليلاً من تلك المنظمات التي تنتشر عبر مقرات لها في مدن ومحافظات العراق المختلفة، تتولى فعلياً تأدية المهام التي تتصدر برنامجها المعلن داخل المجتمع، بينما انحازت أكثريتها إلى أنشطة ذات طابع مجامل للسلطات والأحزاب الرئيسية، إضافة إلى فصائل مسلحة نافذة في البلاد.
وتصدرت منظمات المجتمع المدني الأضواء أخيراً، إثر تكليفها بترشيح مراقبين منها للمشاركة في الرقابة المحلية على الانتخابات التي أجريت في 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وصدرت بيانات متناقضة منها بشأن الانتخابات، إذ تبنّى قسم منها موقف الحكومة حول نزاهة الانتخابات وحسن تنظيمها، فيما تبنت الأخرى موقف القوى السياسية الرافضة لها، وكالت الاتهامات للحكومة، ما جعلها طرفاً في الأزمة السياسية.
تراجع تمويل منظمات المجتمع المدني بسبب انخفاض أسعار النفط
وحول هذه التطورات، ذكر رئيس لجنة مؤسسات المجتمع المدني والتطوير البرلماني في مجلس النواب المنتهية ولايته، يونادم كنّا، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "في العراق أكثر من 7 آلاف منظمة مجتمع مدني، من بينها 4 آلاف مسجلة عند الحكومة، وكلها تأسست في فترة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، حين كان هناك حضور دولي يقدّم الدعم المالي لهذه المنظمات من خلال المشاريع الإنسانية". وأضاف أن "المنظمات الدولية والقوات الأجنبية التي دخلت العراق كانت تحتاج إلى وجود مؤسسات المجتمع المدني لمساعدتها في تنفيذ مشاريعها داخل البلاد"، مبيناً أن "انخفاض أسعار النفط، وغياب التمويل، وظروف ما بعد وباء كورونا، كلها عوامل أدت إلى انخفاض تمويل تلك المؤسسات دولياً. وبفعل ضعف تطبيق القانون تحوّلت بعض المنظمات إلى واجهات حزبية، وأدى ذلك لإنشاء منظمات مجتمع مدني تابعة للأحزاب". وشدّد على أن "القانون لا يسمح للأحزاب بإنشاء منظمات غير حكومية بأسماء أخرى، ولا يسمح كذلك بمشاركة الجماعات المسلحة في الانتخابات، لكن هذا ما حصل الآن". وختم كنّا بالقول "قبل كل شيء يجب أن تكون هناك قوانين تطبّق على الجميع وتحقق العدالة المجتمعية وتؤدي إلى تعزيز دولة المؤسسات، وبخلاف ذلك فإن الفوضى ستستمر".
لكن وعلى عكس الأغلبية، فقد برزت منظمات أو حركات شبابية بإمكانات بسيطة، تصدّت لملفات مهمة، أبرزها حقوق النساء والأطفال ومحاربة الفساد ونبذ التطرف والتأكيد على خيار دولة المواطنة بالبلاد. وهي المنظمات والتشكيلات نفسها التي رفضت المشاركة في المراقبة على الانتخابات، على الرغم من تقديم مفوضية الانتخابات بدلات مالية لمراقبين تختارهم تلك المنظمات.
في السياق، اعتبر رئيس مركز "دجلة للتخطيط الاستراتيجي"، خالد المعيني، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "منظمات المجتمع المدني يفترض أن تؤدي دور الحلقة الوسطى في المجتمع بين القاعدة الشعبية والقمة المتحكمة في أعلى الهرم السياسي، لأن الدول المتقدمة تعتمد على هذه المنظمات في مجالات مهمة مختلفة، لكن في العراق تأسست منظمات المجتمع المدني بعد الاحتلال الأميركي بشكل غير واقعي". ونوّه إلى أن "معظمها لا يؤدي دوراً يُذكر سوى الاهتمام بالجانب المادي أو الشكلي، لذا لم يكن لها أي تأثير، وتلاشت فعاليتها في المجتمع"، مشيراً إلى أن "ركائز المجتمع المدني موجودة وهي النقابات والاتحادات والجمعيات، والمطلوب فقط تخليصها من سطوة الأحزاب كي تؤدي دورها بشكل صحيح".
الكثير من منظمات المجتمع المدني تحوّلت إلى وسيلة لكسب المال بستار إنساني
واعتبر أن "الكثير من منظمات المجتمع المدني تحوّلت إلى وسيلة لكسب المال بستار إنساني، وكذلك تعبئة الجماهير لخدمة بعض الأحزاب في فترات الانتخابات، وهذا الأمر يمثل التفافاً على الدولة والمجتمع في الوقت نفسه". وشدّد على "ضرورة غربلة الآلاف من منظمات المجتمع المدني الموجودة في العراق لفرز الفاعل منها من غير الفاعل، فهناك من اغتنى بسبب هذه المنظمات التي لا علاقة لها لا بالمرأة، ولا بالطفل، ولا بالتعليم، ولا بالصحة". وغالباً ما تكون منظمات المجتمع المدني عبارة عن مؤسسات إنسانية ومراكز بحثية وتجمّعات مدافعة عن حقوق الإنسان وتنظيمات مطالبة بحقوق المرأة والطفل، بالإضافة إلى جمعيات واتحادات وتجمعات أخرى تحمل عناوين مختلفة.
ووفقاً للقانون العراقي، فإن كل مؤسسات المجتمع المدني يجب أن تسجل رسمياً في دائرة المنظمات الحكومية المرتبطة بمجلس الوزراء، وبخلاف ذلك لا يسمح لها بالعمل، إلا أن عدداً كبيراً من هذه المؤسسات ما تزال تعمل على الرغم من عدم حصولها على إجازة تسجيل.
وبحسب شروط دائرة المنظمات غير الحكومية، فإن على المنظمة الجديدة أن تُقدّم طلب تسجيل مرفقا باسمها واسم رئيسها، ثم يخضع الطلب للتدقيق، ويلغى الطلب في حال استخدام ذات الاسم من قبل منظمة أخرى. ومنح قانون المنظمات غير الحكومية الصادر عام 2010 كل عراقي الحق في تأسيس منظمة مجتمع مدني أو الانتماء إليها أو الانسحاب منها. ويسمح القانون بحل أي من المنظمات المسجلة بقرار قضائي في حال مارست نشاطات مخالفة للقوانين العراقية، أو لم تقم بإزالة مخالفات قامت بارتكابها على الرغم من تنبيهها.
وقال الباحث في الشؤون القانونية أحمد العبيدي في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن عدداً كبيراً من منظمات المجتمع المدني سواء كانت مسجلة أو غير مسجلة، ارتكب وما يزال مخالفات قانونية واضحة من دون أي إجراءات للمحاسبة. وأضاف "كثير منا تابع الاستبيانات والأرقام غير الحقيقية التي كانت تروّج لها بعض مراكز الأبحاث التابعة للأحزاب، من أجل فوز مرشحين محددين أو قوى سياسية معينة في الانتخابات"، مشدّداً على أن بعض منظمات المجتمع المدني ساهمت في تناقل الإشاعات والأنباء غير الحقيقية، كما تبنّى بعضها خطابات سياسية واضحة. وكشف أن "بعض المنظمات غير الحكومية متهمة بممارسة عمليات احتيال كبيرة، تحت غطاء المشاريع الإنسانية ودعم المتعففين والمحتاجين والمصابين بالسرطان"، مؤكداً أن الإجراءات الحكومية ضعيفة جداً في ما يتعلق بالمخالفات التي ترتكب تحت مسمى المجتمع المدني".