"فتح" في انتفاضة 2021: بين السياسة والفعل المقاوم

27 يونيو 2021
لم يخف عباس نهجه الرافض للكفاح المسلح بكافة أشكاله (أليكس باندون/فرانس برس)
+ الخط -


أثناء "انتفاضة الشيخ جراح واللد"، في مايو/ أيار الماضي، وبعدها، طُرحت مجموعة من الأسئلة وما زالت تُطرح، من بينها لماذا تأخرت الضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح في اللحاق بركب انتفاضة القدس والداخل المحتل؟ وكذلك لماذا بدا موقفها سلبياً من المعركة التي اندلعت من أجل القدس بين فصائل المقاومة في قطاع غزة وكيان الصهاينة؟ قد يبدوان سؤالين غريبين ولكنهما في الوقت نفسه قد يبدوان منطقيين أيضاً، إذ كيف تغيب فتح عن انتفاضة فلسطينية وهي من نادت وتنادي بالمقاومة الشعبية السلمية منذ عام 2005؟ وكيف تغيب كبرى الفصائل الوطنية الفلسطينية عن حدث مثل الذي حدث؟ ولماذا عندما اضطرت للمشاركة شاركت بصورة باهتة لا تتساوى وحجمها وقيمتها وسعة إمكانياتها وجماهيرها؟
من المعروف تاريخياً أن فتح هي قائدة النضال الوطني الفلسطيني التحرري المعاصر، وصاحبة الطلقة الأولى والحجر الأول، وهذه عبارات أبنائها وعبارات الفلسطينيين أينما وجدوا، هي "أول الرصاص وأول الحجارة"، بمعنى أنها أول من مارس الكفاح المسلح فعلاً منذ عام 1965، وهي أول من مارس الثورة الشعبية كفعل مساند للعمل المسلح أيضاً، من خلال الانتفاضتين الكبيرتين، الأولى عام 1987 والثانية انتفاضة الأقصى عام 2000، وكانت هذه الأخيرة هي مزيج ما بين الشكلين النضاليين الشعبي والمسلح.
لكن في واقع الحال القائم حالياً، أصبح ما ذُكر تاريخاً يحتفي به الفتحاويون وأنصارهم من أبناء الشعب الفلسطيني، لكنه لم يعد مُجسداً كفعل على الأرض في الزمن الحالي، أما لماذا لم يعد كذلك؟ فالإجابة التي يعرفها القاصي والداني لها علاقة بتغير النهج، حيث اختلفَ واقع حركة فتح خلال الستة عشر عاماً الأخيرة، وتحديداً مع السنة الأولى لتسلم الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس رئاسة السلطة والمنظمة وحركة فتح في عام 2005، خلفاً للرئيس الراحل ياسر عرفات، صاحب الشخصية الكارزمية المركبة، حيث اختار نهجاً جديداً مختلفاً عن سلفه، جوهره رفض النضال المسلح كوسيلة تحرير ضد دولة الكيان الصهيوني الغاصب، في داخل فلسطين عام 1948 وكذلك في مناطق العام 1967، رغم أن الفارق القانوني الدولي للأخيرة جوهري من حيث إنها أرض محتلة ينطبق عليها ما ينطبق على أي أرض محتلة أخرى، إذ يكفل القانون الدولي للشعب الخاضع للاحتلال ممارسة كافة أشكال النضال بما في ذلك النضال المسلح.
انتُخب أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية من قبل أبناء الشعب الفلسطيني في مناطق عام 1967، بناءً على برنامجه الذي يرفض العنف بكافة أشكاله ووسائله، ما اعتبر قبولاً به من قِبل مَن صوّت له، وإن كان مرد هذا القبول إلى رغبة الشعب في 2005 بهدنة طويلة لمعالجة آثار ما خلفته الانتفاضة الثانية من دمار وشهداء وجرحى ومعتقلين نتيجة الإجرام الصهيوني المنظم بحق المدنيين العزل، وما رافق ذلك من وعود أميركية ودولية بتحقيق سلام عادل وفق قرارات الشرعية الدولية، إذا ما تم الالتزام بخطة تينيت الأمنية وخريطة طريق جورج ميتشل. وقد بُرر رفض الكفاح المسلح بأنه مدمر، ولكي تتم عملية الطلاق مع مرحلة أبوعمار، ألقيت تهمة إفشال أوسلوا عليه، حيث وصفت سياساته بالمغامرة، وعزوا جنوحه إلى استعمال العنف وتبني سياسة حافة الهاوية إلى سيكولوجيته التي ظلت مسيطرة عليه بأعتقاده أن الثائر من أجل الحرية بإمكانه ممارسة عقيدته أينما شاء، (ذلك بحسب وصف بعض القيادات الفلسطينية الحالية)، وربما كان بعض مما قيل صحيحاً، غير أن عرفات أطلق انتفاضته الثانية نتيجة الفشل الذريع لاتفاق أوسلو وليس العكس، حيث إن النتائج التي أسفرت عنها مفاوضات التسوية في كامب ديفيد 2 كانت غير مقبولة فلسطينياً ولا تلبي الحد الأدنى المطلوب لقيام دولة فلسطينية.
يضاف إلى ذلك أيضاً ما ثبت بالوقائع أن أوسلو لم يكن في استراتيجية ياسر عرفات النضالية سوى مدخل للعودة إلى أرض الوطن ومن ثم إعادة إطلاق الكفاح الثوري بكافة أشكاله ضمن جغرافية الداخل المحتل، بعدما أُرهقت حركة المقاومة الفلسطينية في الخارج بفعل الصراعات الدامية مع دول الطوق العربية، التي حاصرت المقاومة وحاولت السيطرة على القرار الفلسطيني المستقل، من خلال عملية تدجين سياسية قادت الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد وبالتالي إلى الأتفاق المرحلي في أوسلو.
لذلك، يمكننا أن نسجل أولاً أن ثمة فارقاً كبيراً ما بين إيمان عرفات بالعنف الثوري والمفاوضات معاً تكاملاً وعملاً، وإيمان رفيق دربه محمود عباس بالمفاوضات فقط، حيث يرى الأخير أن الكفاح المسلح ضار ومدمر ولا داعي له، وأن الصواريخ الغزية عبثية، ولا جدوى منها، وأن تحرير الأرض يجب أن يتم بالمفاوضات وبالمقاومة الذكية (وهذه العبارة بحاجة إلى تفسير حيث لم تطبق واقعياً منذ تبنيها)، التي إذا فشلت، وفق تعبير الرئيس أبومازن، ستقود إلى مزيد من المفاوضات، وهي توليفة عجيبة من الصعب أيضاً تفسيرها إلا ضمن منطق رفض العنف وحصر النضال الفلسطيني في الإطار الدبلوماسي والقانوني، الذي حقق بعض النجاحات، من أبرزها العضوية في المنظمات الدولية وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، وهو أمر هام جداً وسلاح ناعم في وجه سياسات العدوان والفصل العنصري والتطهير العرقي والاستيطان، وجرائم الحرب. والثاني ارتقاء عضوية فلسطين إلى دولة عضو مراقب في الأمم المتحدة. ورغم أثر هذه الإنجازات الدبلوماسية معنوياً، إلا أنها لم توقف الاستيطان ولا التهويد ولا اعتداءات المستوطنين الصهاينة ولا سياسات التطهير العرقي في القدس ومناطق أخرى في الضفة الغربية، وهي ممارسات تمت وما زالت رغم مواصلة الطرف الفلسطيني عملية ما سمي بناء جسور الثقة مع العدو، وما يرافقها من تنسيق أمني (الذي وصفه الرئيس عباس يوماً بالمقدس)، وقد أوقف هذا التنسيق ستة شهور تحت ضغط الرأي العام الفلسطيني والفصائلي ولكنه عاد واستؤنف من جديد.
وفي الحقيقة لم يخف الرئيس الفلسطيني محمود عباس نهجه الرافض للكفاح المسلح بكافة أشكاله، بما في ذلك السلاح الأبيض، بل أكد عليه في أكثر من مناسبة، وتعهد في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه القناة الإسرائيلية الثانية ضمن برنامج "نوافذ"، في الأول من نيسان/ إبريل عام 2016، على منع ذلك و"أن الأمن الفلسطيني فتش المدارس الفلسطينية وحقائب التلاميذ بحثا عن سكاكين لمنع العمليات، وأن أجهزة الأمن الفلسطينية عثرت في مدرسة واحدة على 70 سكينا في حقائب التلاميذ وجردتهم منها وأقنعتهم بعدم جدوى القتل أو الموت على الحواجز الإسرائيلية". وجزم أن عهده لن يشهد انتفاضة مسلحة "مهما كلف ذلك من ثمن".
هذه السياسات للرئيس الفلسطيني أبو مازن ورفاقه في قيادة فتح ومنظمة التحرير تتم تحت الضوء وليس بالسر، ويفاخر بها الرئيس أبو مازن في كثير من خطاباته في المجالس الوطنية والجامعة العربية والأمم المتحدة، بقوله "إن ما تفعله هذه الأجهزة هو إنجازات كبيرة، خاصة في مجال تبادل المعلومات، فالمعلومات التي تقدمها هذه الأجهزة لنظرائها لا يستطيع أحدٌ غيرها القيام بها"، ربما هذا الذي ذكر هو معلومات تاريخية وهي معروفة لكل متابع للشأن الفلسطيني، لكن ماذا عن حركة فتح بمجملها قيادة وجماهير؟
أثبتت عملية الترشح للانتخابات الأخيرة، 2021، التي ألغيت قبيل الانتفاضة بفترة وجيزة، أن فتح ليست على قلب رجل واحد بل تتنازعها تيارات متعددة، أبرزها ثلاثة أو أربعة، تختلف آراؤها ورؤاها في ما بينها، وتعكس أزمة حقيقية في داخل الحركة التي وصلت حداً هدد الحركة بخسارة الانتخابات مقابل خصمها السياسي حركة حماس، وهذه قد تكون من الأسباب الرئيسة التي دعت الرئيس لإلغاء الانتخابات مع القضية الأهم وهي مشاركة سكان القدس العربية، وأثبتت الوقائع أن فتح تعاني من صراع علني ومستتر على السلطة وعلى من يخلف الرئيس عباس (85 عاماً)، في منصبه. وهذا ربما يفسر تأخر الحركة الرسمي في الانخراط بالانتفاضة والفعل الكفاحي الشعبي واستبعاد المسلح منه إلا ما قام به أفراد من الحركة بقرارات ذاتية من عمليات إطلاق نار باتجاه جنود الاحتلال في جنين ونابلس والخليل ورام الله، وهي حوادث تعد على أصابع اليد، وكذلك سُجلت مشاركة كتائب شهداء الأقصى في قطاع غزة من خلال إطلاق صواريخ قصيرة المدى على مستوطنات غلاف غزة، وهي جميعاً لم تخضع لأوامر القيادة الرسمية بل عملت من تلقاء ذاتها.
وبُرر تردد حركة فتح الرسمية بالمشاركة الفاعلة في بداية الأمر بوجود مؤامرة إيرانية وأحياناً قطرية - تركية، وأخرى تفاهم بين نتنياهو وحماس على زعزعة حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وعلى الصعيد الجماهيري، فإن كوادر ونشطاء فتح من الشبيبة هم من قادوا المظاهرات العارمة في مدن الضفة الغربية، وهم من أطلقوا هتاف "يلي بتحكوا انقسام فتح بتهتف للقسام"، في عاصمة السلطة الفلسطينية رام الله، وهذا يعني إيماناً فتحاوياً قاعدياً بأن الكفاح المسلح الممنوع رسمياً هو الخيار الأمثل لتحرير الوطن المغتصب. وهؤلاء الشبان الفتحاويون ممن عبروا في مسيراتهم عن غضبهم لحال الحركة ومآلاتها وطالبوا القيادة الرسمية بالخروج من عباءة أوسلو والعودة لجوهرها كحركة تحرر وطني تمارس كافة أشكال النضال، قاموا بذلك من تلقاء ذاتهم.
بناء على ما تقدم، بإمكاننا أن نسجل أنه وخلال انتفاضة الشيخ جراح ومعركة أيار انقسمت حركة فتح على نفسها بين قيادة وقواعد. القيادة صمتت والقواعد هدرت على الأرض، وتفاعلت عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع معركة غزة وانتفاضة الداخل، ما اضطر بعض القيادات من أعضاء اللجنة المركزية للنزول إلى الشارع في آخر أيام معركة غزة، وتحديداً عند حاجز بيت إيل الاحتلالي وكذلك في جبل صبيح عند قرية بيتا، شمال الضفة، وذلك بأمر من اللجنة المركزية وليس كعمل فردي، لكن فعلها ذاك لم يكن هو الفعل المطلوب فقط من قواعد فتح وأبناء الشعب الفلسطيني، كان المطلوب وما زال استعادة روح الحركة، كحركة مقاتلة، وهو ما لم يحصل، ولن يحصل قريباً، بحسب كافة المعطيات، فقيادة فتح ما زالت تراهن على المفاوضات والعودة إلى مشروع التسوية وإلزام الكل الفلسطيني بشروط الرباعية التي تُجرم الكفاح الفلسطيني المسلح وتصفه بالإرهاب، وكذلك تشترط على أي حكومة فلسطينية الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، والتي أضاف إليها الرئيس الأميركي جو بايدن عبارة الاعتراف بها كدولة يهودية.
فتح والسلطة معادلة متداخلة، وربما هذه المعادلة والتداخل هي بعض من أسباب ضعف فتح، فما تفعله السلطة المكبلة بالأغلال ينعكس على فتح الحركة أغلالاً وموانع للفعل الثوري، الذي يُختصر أحياناً بمسيرات نعلين وبلعين والنبي صالح، وهي حراكات لا ترتقي للفعل الانتفاضي الشعبي المؤثر، بل عادةً ما توصف تلك المسيرات بمسيرات رفع العتب والشو الإعلامي، وهذا يختلف اختلافاً بيناً عن الفعل المقاوم الذي يُمارسه الفتحاويون أفراداً كلما تمكنوا من ذلك.
وما اشتباك جنين المسلح المزدوج يوم العاشر من حزيران/ يونيو 2021، الذي خاضته ثلة من رجال الاستخبارات العسكرية للسلطة مع القوات الخاصة الصهيونية، إلا دليلا على أن أبناء الشعب الفلسطيني مقاومون وأفراد الأجهزة الأمنية يقفون في الخندق نفسه. وبظننا لم يحتَج أبناء الأجهزة الأمنية لأوامر خاصة حتى يدافعوا عن أبناء شعبهم كأفراد وطنيين غيورين، فقد كانوا دوماً فدائيين، وسطروا أروع الملاحم البطولية في الانتفاضة الثانية، لذلك مهما عُقدت من اتفاقيات أمنية فإن الفلسطيني يعلم علم اليقين عدوه وإلى أين يجب أن يوجه سلاحه.
يوماً بعد يوم يتأكد أن الشعب الفلسطيني بكافة انتماءاته وحدة واحدة، وخندق واحد، ضد العدو، وما اختلاط دماء أبناء فتح والجهاد الإسلامي في العاشر من حزيران في جنين، إلا دليلاً جديداً على أن البنادق كل البنادق تتصدى للعدو، وبغض النظر عن الاختلافات السياسية في التكتيكات والاستراتيجيات النضالية لدى القيادات في الصف الأول، إلا أن حقيقة الوحدة في أرض المعركة هي حقيقة خالدة، تتجاوز الأزمنة والأمكنة، وهذا ما تضمنه بيان أقاليم فتح في الضفة الغربية بتاريخ 10/6، حيث تضمن عبارة تُفيد بأن فتح إذا اضطرت للقتال فستحمي شعبها بالبنادق، وهذا يدل أن الانتفاضة الأخيرة التي ما زالت تداعياتها متواصلة قد تقود فتح ولو بشكل بطيء للانفكاك عن النهج التكتيكي الذي سار عليه الرئيس أبو مازن منذ ستة عشر عاماً، وإنها، أي حركة فتح، قد تعود في المدى المنظور إلى منطلقاتها الأولى. قد يبدو ذلك أحلاماً وآمالاً، إلا أن الوقائع والتطورات القادمة المتعلقة باستمرار استفزازات الاحتلال وقطعان مستوطنيه قد تثبت العكس، وأن فتح نبضها مع نبض جماهيرها لا قياداتها التي تتوخى الانصياع لتأثير المجتمع الدولي واستراتيجياته، حيث ترى قيادات من الصفين الثاني والثالث أن فتح لا يمكن أن تستمر كحركة قائدة ما لم تكن حركة مقاومة، فالمقاومة هي جوهرها، ونظام استيطان استعماري إحلالي كالاستعمار الصهيوني، لا طريق إلى زواله أو دحره إلا بالقوة، فما نشأ بالقوة لا يُزال إلا بالقوة، هكذا تخبرنا تجارب الشعوب وحركات التحرر في العالم. وحتى تستطيع فتح العودة إلى ذاتها لا بد لها من الانسلاخ عن السلطة، فدون ذلك ستبقى فتح حبيسة السلطة وتبعيتها وليس العكس.