تشهد الساحة الحزبية في المغرب سباقاً محموماً من أجل استقطاب واجتذاب مرشحين، يمتلكون قدرات تساعد على رسم الخريطة الانتخابية المقبلة بالاعتماد على سلطة المال والجاه والمكانة الاجتماعية، وذلك قبل الانتخابات العامة في العام الحالي، الثالثة من نوعها في البلاد بعد عقد من حراك 20 فبراير /شباط وتعديل الدستور. وفي موازاة ما تطرحه الانتخابات البلدية والجهوية والتشريعية من تحديات على الفاعلين السياسيين في المغرب، تراهن العديد من الأحزاب على تحقيق نصر انتخابي، يؤهلها لقيادة الحكومة المقبلة بالاستعانة بشبكة واسعة من الأعيان (الوجهاء)، باعتبارهم شخصيات متمتعة برأسمال اجتماعي وعائلي واقتصادي، وقناة للتعبئة والوساطة بين الإدارة والناس داخل مجال نفوذها القبلي والعائلي.
بدا لافتاً للانتباه تمكن حزب "التجمع الوطني للأحرار" من استرجاع عدد من الأعيان
ومع دخول مرحلة العد العكسي للحسم في القوائم الانتخابية التي ستخوض غمار الانتخابات المنتظرة، بدا لافتاً خلال الأيام الماضية، ارتفاع الطلب السياسي على فئة الأعيان. وفي الوقت الذي احتفظت فيه بعض الأحزاب بأعيان معروفين، تسابق أخرى الزمن من أجل استمالة آخرين، وذلك لضمان حضور قوي في الاستحقاق الانتخابي المنتظر. ولتحقيق تلك الغاية، أطلقت الأحزاب السياسية، تحديداً التي تراهن على تصدر المشهد الحزبي لما بعد محطة 2021، حملة واسعة لاستقطاب الأعيان وضمان ترشيح أكبر عدد ممكن منهم باعتبارهم "الأقدر" على منافسة حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومي الحالي، وإنهاء سيطرته على المشهد الحزبي منذ عقد من الزمن.
في السياق، بدا لافتاً للانتباه تمكن حزب "التجمع الوطني للأحرار"، الطامح لإزاحة "إخوان" سعد الدين العثماني عن رئاسة الحكومة، من استرجاع عدد من الأعيان والفاعلين الذين شكلوا على الدوام قاعدته ونواته الصلبة، بعد أن فقدهم في محطات سابقة. كما يواصل حزب "الاستقلال" المعارض تحركاته لاستقطاب الأعيان وأصحاب النفوذ، الذين يملكون كتلة انتخابية ثابتة، قد تكفل له العودة لقيادة الحكومة العتيدة. في المقابل، يراهن حزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي شهد هزات عنيفة خلال الأشهر الماضية، على عدد من الأعيان النافذين انتخابياً الذين يمثلون قاعدته البشرية الأساسية، لتكرار ما حققه من نصر انتخابي في محطتي 2009 و2015.
بدورهم، دشن عدد من الأعيان حملات انتخابية سابقة لأوانها في القرى والمدن الكبرى، وذلك بعدما ضمنوا الحصول على تزكيات لقيادة اللوائح الانتخابية، في حين لم تفلح الموانع القانونية ولا تحذيرات وزارة الداخلية بعضهم من البحث عن وجهة حزبية جديدة لخوض الانتخابات. ولم يكن التحرك اللافت للأعيان، والسعي المحموم من قبل الأحزاب المغربية للتسابق على استقطابهم، وليد اللحظة الانتخابية، ولا نشأ في الفراغ، بل تضافرت عوامل عدة هيئت له، بعد أن أصبح الأعيان في السنوات الماضية بمثابة وقود انتخابي لا ينتهي للأحزاب.
تاريخياً، تمثل فئة الأعيان ركيزة أساسية في المعادلة السياسية القائمة في البلاد، مع تحولها خلال السنوات الأخيرة إلى لاعبٍ مهمٍ بالنظر إلى الدور الريادي الذي أدته عشية كل موعد انتخابي. وتمتلك هذه الفئة تاريخاً عريقاً في مسيرة العمل السياسي المغربي، مع تشكيلها أداة لحكم البلاد قبل الاستعمار الفرنسي (1912 ـ 1956) وأثناءه من خلال أعوان السلطة المتمثلة في قادة القبائل بالقرى والباشوات بالمدن الكبرى وحاشيتهما، فضلاً عن أهل العلم والتجار والحرفيين والمزارعين الكبار.
وحملت فترة الخمسينيات من القرن الماضي حضوراً لافتاً لفئة الأعيان، في سياق الصراع الذي شهدته البلاد خلال السنوات التي أعقبت الحصول على الاستقلال عام 1956، بين النخب المنظَّمة في أحزاب منبثقة من الحركة الوطنية، خصوصاً حزب "الاستقلال" من جهة، والقصر الملكي من جهة ثانية.
وفي سياق هذا الصراع برز الدور المحوري لأعيان البادية، التي كانت تشكل آنذاك غالبية ساكنة البلاد، بعد تحالف الملكية معهم، وأصبحوا القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي، التي يتحكم من خلالها في تشكيل الخرائط السياسية وتحقيق التوازنات. ومع دخول المغرب في أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، في ثمانينيات القرن الماضي، مرّت فئة الأعيان بتحول جوهري، إذ أصبحت تتشكل أساساً من ذوي النفوذ المالي، الذين جنوا ثروات طائلة من خلال المضاربات العقارية والسمسرة أو التهريب بأشكاله المتعددة والمختلفة، والاتجار في الممنوعات والمواد الفاسدة.
وانطلاقاً من تسعينيات القرن الماضي، لم يعد حضور الأعيان مقتصراً على الأحزاب الإدارية (أحزاب عملت السلطة على الإيعاز لبعض الشخصيات المقربة منها بتأسيسها وأغدقت عليها الكثير من الدعم والرعاية) وإنما تعداه إلى الأحزاب الوطنية والديمقراطية، بفضل اختراق تنظيمي وسياسي مهد له الطريق نهج قيادات تلك الأحزاب لسياسة براغماتية تعتمد مقاربة "المقاعد تهمنا".
تخترق فئة الأعيان البنيان التنظيمي للأحزاب في البلاد
وأثارت العلاقة بين الأعيان والعمل السياسي جدلاً مستمراً لم يتوقف في المغرب، بالنظر إلى الكلفة المستمرة إلى حد الساعة للاختراق التنظيمي والسياسي للأحزاب الوطنية والديمقراطية، على مستوى التحكم في تلك التنظيمات ورهن استراتيجيتها الانتخابية. وهنا، يرى الباحث في العلوم السياسية، محمد شقير، أن تزايد نفوذ الأعيان داخل الأحزاب، التي أصبحت تعتمد عليهم لجذب الناخبين وتوجيههم إلى التصويت لصالحها، مرده إلى تراجعها وتقاعسها عن تأطير الشباب وتنامي ظاهرة العزوف الحزبي والانتخابي.
ويلفت شقير في حديثٍ لـ"العربي الجديد "، إلى أن التنافس على استقطاب الأعيان أدى إلى استفحال ظاهرة الترحال الحزبي لتحقيق مصالحهم الشخصية ومصالح الأحزاب، في اقتناص الأصوات الانتخابية والحصول على عدد أكبر من المقاعد البرلمانية. ويعتبر أن فئة الأعيان من ضمن المكونات السياسية المتجذرة في المغرب.
ويرجح الباحث المغربي أن تعرف الانتخابات المقبلة تنافساً بين الأحزاب السياسية على استقطاب الأعيان، خصوصاً في ظل تزايد ظاهرة العزوف الانتخابي، وضعف الأحزاب في تأطير جموعها وعدم تجديد هياكلها التنظيمية وخطابها السياسي.
من جهته، يرى أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بالكلية متعددة الاختصاصات في تازة، إسماعيل حمودي، أن الأعيان هم حلفاء السلطة في تثبيت ميزان القوى السياسي القائم، وأداتها في تثبيت سياستها الانتخابية في المجال القروي وشبه الحضري. ويشير في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن المشهد الحزبي عشية الانتخابات المقبلة يشهد تنافساً حول صنف معين من الأعيان، يتميزون بامتلاكهم لشبكات اجتماعية وانتخابية تمكنهم من الفوز بمقعد انتخابي مؤكد. ويتوقع حمودي أن تكون الانتخابات المقبلة "عبارة عن مهرجان كبير للتنفيس الاجتماعي وإعادة تدوير المنافع، أكثر منها انتخابات سياسية، وسيكون مطلوباً من الأعيان تنشيط ذلك المهرجان بما راكموه من ثروات لتثبيت السلم الاجتماعي".