01 أكتوبر 2024
مع كل عيد ميلاد
مع كل عيد ميلاد، نستعيد الطقس نفسه، من تزيين الشجرة الخضراء بالكريات الحمراء والذهبية، إلى شريط الأضواء، إلى كتابة ناي رسالتها إلى بابا نويل، ووضعها مع كأس حليب وصحن جزر مقشور، لكي يمرّ الشيخ العجوز، بلحيته البيضاء وثيابه الحمراء، فيستريح إلى حين، ويأكل ويشرب، قبل أن يستأنف رحلته الطويلة جدا، هو الذي يجمع رسائل أطفال العالم من حول الكرة الأرضية.
نصوّر الرسالة على "واتساب"، ثم نرسلها إلى العائلة التي يتهافت أفرادها لتقاسم ما فيها من مطالب وأمنيات، فتتوزّع المهام، ويبدأ شراء الهدايا، تغليفها وإخفاؤها، بما يشبه "مهمّة مستحيلة"، يتطلّب تنفيذها الانتباه إلى أدقّ التفاصيل، حفاظا على سرّيتها من جهة، وصوناً للحلم الصغير من أي شكّ قد يشوبه أو يجعله، قبل أوانه، قابلا للتصدّع أو للاندثار.
نخشى أن يكتشف أطفالُنا الحقيقة عارية، الأحرى أننا ندرك أنهم سيكتشفونها لاحقا لا محالة، وأننا عاجزون عن أي شيءٍ، باستثناء إرجائها ربما، لهذا العام، أو لعام آخر بعدُ ربما، قبل أن يقسو العود، ويطلع الزغب، وتُبصر العيون. نصوغ الحلمَ كما يحضر في المخيّلات الصغيرة، ونسارع لتنفيذ أدق الرغبات، لأننا نعرف أن ذلك زائلٌ عمّا قريب، وأن صدمة اختفاء السحريّ من حياتهم ستترك أثرا عميقا لن تتكفّل الأعوام المقبلة بمحوه، أو بتخفيف وقعه. طالما يؤمن أطفالنا بوجود "بابا نويل" الذي اخترعناه، سنبقى نجهد لجعل تلك الأكذوبة تبدو حقيقة، لأنّ مثل تلك الأكاذيب هي ما تجعل الحياة تبدو أفضل، أجمل، ولو إلى حين.
يقول الفيلسوف الإيراني، داريوش شايغان، الذي غادرنا هذا العام، إن الحداثة نزعت السحر عن العالم، فراح الإنسان الحديث، على الرغم من ثرائه وثقافته الواسعة، يعاني من فراغ روحيّ، فالحداثة تعنى برأيه بالمشكلات الاقتصادية أو السياسية، غير أنها تهمل كل احتياجاتنا الأساسية.
نحن لم نتعرّف صغارا إلى بابا نويل، سمعنا به، ولم يزرنا إلا لماما، وحين أتى، لم نكن نجرؤ على مطالبته بالكثير. لعبة واحدة تكفي، دمية من قماش، أو سيارة حديدية، إن لم تكن من البلاستيك. اليوم، لا نعرف كيف نُغرق أطفالنا بالهدايا، اعترافا بذنبٍ ما، خوفا من التقصير، ورغبة منّا بإهدائهم سعادة مفترضة، لا تُشبَع إلا من خلال الإفراط في الاستهلاك. مع أن قصص الميلاد لطالما قامت على النقص، والفقد، والفقر، فيسوع ولد داخل مغارة، في مزود من قش، لوالدين هاربيْن معوزيْن، وكذلك هم أبطال الكاتب الإنكليزي الشهير شارل ديكنز في قصصه المرتبطة بالميلاد، وأشهرها "ترنيمة عيد الميلاد"، حيث المعاناة من القلّة والمرض، وأيضا الفتاة الصغيرة التي تموت من البرد والجوع في رواية "بائعة الكبريت" للدنماركي هانس كريستيان أندرسن.
كنتُ، خلال إقامتي في فرنسا، والحرب الأهلية مشتعلة في لبنان، أفكّر أن الدولة الفرنسية هي "بابا نويل" الذي يُغدق الهدايا على مواطنيه: النظام، والأمان، واحترام حرية الفرد، والتعليم المجّاني، والطبابة المجانية، والمكتبات العامة، والحدائق، ولائحة طويلة من حقوقٍ كثيرة، تقابلها بعض الواجبات. ثم ينتابني ذلك الإحساس بالغبن، وذلك الشعور بالحرمان، حين أفكّر بنا، وكيف أننا لا ننعم بأية أعياد، ولا نستحق هدايا من أي نوعٍ كان، وكيف أن طبيعة بلادنا الجميلة نفسها قد أُفسدت، إذ تحوّلت إلى هديةٍ مسمومة، بل إلى عقاب، فالمياه ملوثة، والهواء موبوء، والبحر مسموم، والنفوس حاقدة و... بل إن بابا نويل خاصتنا هو من النوع الذي يحمل السياط، ويستقوي على الضعيف، ويستعلي، وينهب، ويعد بالكثير، ولا يفي بالوعود، يغشّ ويكذب ويسرق من دون حساب وبدون محاسبة، لأن بابا نويل خاصتنا لا يكلّف نفسه عناء التنكّر أو التخفّي، وإنما ينتقل في وضح النهار.
وبانتظار عودة بابا نويل خاصتنا إلى رشده، فلنتمسّك بذاك الذي يزور أطفالنا خلسةً، حريصا على حفظ أحلامهم البريئة من الانكسار.
نخشى أن يكتشف أطفالُنا الحقيقة عارية، الأحرى أننا ندرك أنهم سيكتشفونها لاحقا لا محالة، وأننا عاجزون عن أي شيءٍ، باستثناء إرجائها ربما، لهذا العام، أو لعام آخر بعدُ ربما، قبل أن يقسو العود، ويطلع الزغب، وتُبصر العيون. نصوغ الحلمَ كما يحضر في المخيّلات الصغيرة، ونسارع لتنفيذ أدق الرغبات، لأننا نعرف أن ذلك زائلٌ عمّا قريب، وأن صدمة اختفاء السحريّ من حياتهم ستترك أثرا عميقا لن تتكفّل الأعوام المقبلة بمحوه، أو بتخفيف وقعه. طالما يؤمن أطفالنا بوجود "بابا نويل" الذي اخترعناه، سنبقى نجهد لجعل تلك الأكذوبة تبدو حقيقة، لأنّ مثل تلك الأكاذيب هي ما تجعل الحياة تبدو أفضل، أجمل، ولو إلى حين.
يقول الفيلسوف الإيراني، داريوش شايغان، الذي غادرنا هذا العام، إن الحداثة نزعت السحر عن العالم، فراح الإنسان الحديث، على الرغم من ثرائه وثقافته الواسعة، يعاني من فراغ روحيّ، فالحداثة تعنى برأيه بالمشكلات الاقتصادية أو السياسية، غير أنها تهمل كل احتياجاتنا الأساسية.
نحن لم نتعرّف صغارا إلى بابا نويل، سمعنا به، ولم يزرنا إلا لماما، وحين أتى، لم نكن نجرؤ على مطالبته بالكثير. لعبة واحدة تكفي، دمية من قماش، أو سيارة حديدية، إن لم تكن من البلاستيك. اليوم، لا نعرف كيف نُغرق أطفالنا بالهدايا، اعترافا بذنبٍ ما، خوفا من التقصير، ورغبة منّا بإهدائهم سعادة مفترضة، لا تُشبَع إلا من خلال الإفراط في الاستهلاك. مع أن قصص الميلاد لطالما قامت على النقص، والفقد، والفقر، فيسوع ولد داخل مغارة، في مزود من قش، لوالدين هاربيْن معوزيْن، وكذلك هم أبطال الكاتب الإنكليزي الشهير شارل ديكنز في قصصه المرتبطة بالميلاد، وأشهرها "ترنيمة عيد الميلاد"، حيث المعاناة من القلّة والمرض، وأيضا الفتاة الصغيرة التي تموت من البرد والجوع في رواية "بائعة الكبريت" للدنماركي هانس كريستيان أندرسن.
كنتُ، خلال إقامتي في فرنسا، والحرب الأهلية مشتعلة في لبنان، أفكّر أن الدولة الفرنسية هي "بابا نويل" الذي يُغدق الهدايا على مواطنيه: النظام، والأمان، واحترام حرية الفرد، والتعليم المجّاني، والطبابة المجانية، والمكتبات العامة، والحدائق، ولائحة طويلة من حقوقٍ كثيرة، تقابلها بعض الواجبات. ثم ينتابني ذلك الإحساس بالغبن، وذلك الشعور بالحرمان، حين أفكّر بنا، وكيف أننا لا ننعم بأية أعياد، ولا نستحق هدايا من أي نوعٍ كان، وكيف أن طبيعة بلادنا الجميلة نفسها قد أُفسدت، إذ تحوّلت إلى هديةٍ مسمومة، بل إلى عقاب، فالمياه ملوثة، والهواء موبوء، والبحر مسموم، والنفوس حاقدة و... بل إن بابا نويل خاصتنا هو من النوع الذي يحمل السياط، ويستقوي على الضعيف، ويستعلي، وينهب، ويعد بالكثير، ولا يفي بالوعود، يغشّ ويكذب ويسرق من دون حساب وبدون محاسبة، لأن بابا نويل خاصتنا لا يكلّف نفسه عناء التنكّر أو التخفّي، وإنما ينتقل في وضح النهار.
وبانتظار عودة بابا نويل خاصتنا إلى رشده، فلنتمسّك بذاك الذي يزور أطفالنا خلسةً، حريصا على حفظ أحلامهم البريئة من الانكسار.