إفراغ العالم من صخبه

17 سبتمبر 2024

(حورية نياتي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

اليوم، مع انعزالك التامّ عن الضوضاء في بيتك المعزول بدوره عن الخارج بزجاج مضاعف، يصمّ الأصوات ويصدّها، ونأيك عن الحياة الاجتماعية وعلاقاتها المفيدة وغير المفيدة، وعملك بين أربعة جدران من دون الخروج بتاتاً، إلّا عند احتياجك قضاء مهمّة، يقتحمك الصخبُ من الشاشات التي لا تستطيع إطفاءها مُرغَماً، ومن وسائل التواصل المفروضة عليك مثل أحكام القضاء. تنهض صباحاً، لا تنظر إلى ما وراء النافذة، لا تنظر إلى ما حولك، لا تنظر في داخلك، لا تنظر لشيء. تضيء شاشة الآلة اللعينة: صور، تعليقات، هتافات، صواريخ، قتلى، مشرّدون، حفلات، تهان، انتقادات، تبريكات، مراث... كلّه يتركّز هنا، داخل هذا المستطيل المشؤوم، الذي ما أن تلمسه، حتّى ينفتح عليك باب جهنّم، وتودّ لو ترميه بعيداً عنك، ففيه "العفاريت" كلّها، التي تُنغّص عيشك، وتدمّر أعصابك، وتقتات من خلايا دماغك.
وتسأل أين الهاتف البسيط الصغير الذي كان فقط هاتفاً؟ أين الشاشة المنفصلة التي كنت تضيئها ليلاً لتطّلع على الأنباء، ولتهوّي من بعدها رأسك فتتسلّى بمشاهدة فيلم بالأبيض والأسود، أوتتابع حلقةً في مسلسل؟ أين الكاميرا تحافظ عليها فتودعها محفظتها الجلدية، تُلقّمها بكرةً، وتلتقط بها صوراً في أكثر من مناسبة وموضع، قبل أن يكتمل عددها ويستحقّ موعد سحبها وأخذها إلى المصوّر ليظهّرها لك. تشتري لها ألبوماً جميلاً لتوزّعها بين جيوبه البلاستيكية الأنيقة، ثم تغلقه لتضعه في مكان أمين، وأنت تدرك أنّه تركة ثمينة ينبغي الاحتفاظ بها لمن سيأتي من بعدك.
أين هو الصمت وما حلّ به؟ أين لحظات التأمّل، ساعات الضجر التي تُبطِئ سيرها إلى درجة تجعلك تُقلّب المجلّة العتيقة للمرّة الألف، لعلّك تكتشف فيها خبراً أهملته أو صورةً فاتتك. أين هي الهدأة؟ ألم تكن أحوال العالم أفضل ممّا هي اليوم؟ ... أجل ربّما، لكنّنا كنا نرتاح بين فاجعة وأخرى، بين ميّت وآخر. كان الوقتُ يمهلنا وقتاً، والبطء حليفنا الذي يرثي لحالنا، فيتباطأ أكثر قبل أن تبلغنا أخبار مآسي القريب والبعيد، الداني والقاصي. بل إنّا كنّا أحياناً لا نعلم، فلا نشهد أعاصيرَ تدمّر بلدات بحالها، ولا طوفانات تقضي على كلّ حيّ يرزق، ولا أوبئة تزرع الخوف في الأفئدة. لا نعرف حروبَ إبادة وإجرام وفظائع، ولا نساءً وبنات يُقتلن، ولا شبّاناً يسجنون ويموتون بسبب تغريدة أو كلمة.
الصمم، ربّما نعم. لكن، الصمم وحده لا يكفي، ينبغي العماء أيضاً، فقدان السمع والبصر، وربّما حاسّة الشمّ أيضاً، لأنّ للدماء والجثث والحرائق روائحَ نفّاذةً لا يخطئها الأنف. أجل، نستطيع العيش بحاسَّتَين اثنتَين؛ الذوق واللمس، شرط ألّا نخرج من جحورنا، شرط ألّا نتعرّض أو نصطدم بما ينمو ويتكاثر في الخارج كالفطر السامّ.
في روايته الأخيرة "قاهرة اليوم الضائع" (منشورات المتوسط، 2024)، أفرغ الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد القاهرة من بشرها. هل يمكن لأحدنا أن يتخيّل شوارع القاهرة خاويةً من دون صخبها وضجيجها وزحامها والأعداد الهائلة من بشرها؟ ... هوَ فَعَل. تصوّر يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني (2022)، وقد دُعي الناس إلى التظاهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فكان أن أُقفلت المحالّ والشركات في اليوم الموعود، والتجأ الناس إلى بيوتهم، ولم ينزل أحد. هكذا استفاد البطل/ الكاتب من هذا الفراغ غير المأمول، لينزل ويجول على العمارات القديمة التي بنيت على الطراز الأوروبي، مسترجعاً بحنين وشجن ذاكرة أمكنة وحقبة لم تعد، موجّها سهام النقد إلى حاضر مضطرب، مشوّه، أفقر الناس وكمّم أفواههم.
أنا لا أريد أن يفرغ العالم، أريده أن يصمت فقط. اصمت أيها العالم، توقّف عن الهذر، انطفئي أيّتها الشاشات وليختفِ ما تبثّينه من صور تجرّح العقول وتقضمها كالجرذان. اسكتي أيّتها الأصوات، توقّفي يا مدافع، ولتصمت الموسيقى أيضاً، وليعمّ الصمتُ أخيراً، ويتمدّد بجلاله ووقاره فوق عالمٍ ثرثار أبله.
شششششش...

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"