سورية للجميع

30 ديسمبر 2017
+ الخط -
أحياناً يثير منشور على "فيسبوك"، كتبه أحدهم في لحظة ضجر أو قرف أو غضب، نقاشاً ما، أو تفكيراً عميقاً، بما وصلت إليه حالنا، نحن السوريين الموزّعين في شتى أنحاء الأرض، فقبل أيام كتبت شاعرة سورية مقيمة في سورية منشوراً تقول فيه ما معناه، إن سورية هي للناس الذين ماتوا فيها وظلوا فيها، حتى بعدما تم قصف بيوتهم فوق رؤوسهم. وذكرت أسماء مثقفين ظلوا في سورية. وقالت إن سورية هي هؤلاء، وهي لهم، لا للآخرين الذين خذلوا سورية، وتنكروا لها، "ممن يسمون أنفسهم نخبة سورية". والآخرون الذين تقصدهم الشاعرة هم جميع المثقفين (كتاباً وفنانين) الذين خرجوا من سورية لأسباب متعددة، وأقول (جميع) لأنها لم تخصّص في منشورها أحداً من الخارجين، مع أن الخارجين من هؤلاء (النخبة) خرج كل واحدٍ منهم لسبب مختلف عن سبب الآخر، وإن كانت أسباب بعضهم هي مجرد البحث عن الأمان أو القرف من الحرب، وهذا من أول حقوق البشر، فإن لبعضهم الآخر أسباباً موجبة للخروج، فمنهم من كان ملاحقاً أمنياً فعلاً، ومنهم من وصلت الحرب إلى باب بيته، ومنهم من فقد بيته وعائلته، ومنهم من أراد النجاة بأولاده بعيداً عن الحرب والموت والدمار. لكل منهم أسبابه، وكل سببٍ يستحق أن يفكر صاحبه بالبحث عن حياة جديدة آمنة له، إن كان وحيداً، ولعائلته وأولاده صغاراً وكباراً.
طبعاً، وككل حالة خلافية سورية. لم يمرّ المنشور مرور الكرام، فالمنشور مستفز فعلاً في صياغته وتعميميته، وهو يدل على خلافٍ حقيقيٍّ ستكون له نتائج وخيمة حين تحصل المعجزة، ويتفق المجتمع الدولي على حل نهائي للقضية السورية، فالمشكلة الكبرى في التعميم هي في النظر إلى (الآخرين) بوصفهم كتلة واحدة مصمتة، لا يمكن اختراقها، ولا مجال للتعرّجات والانحناءات فيها. يحدث هذا في الحديث عن الأديان والطوائف والأعراق والشعوب، ويحدث أيضاً بين سوريي الداخل وسوريي الخارج. يصف بعض السوريين (المثقفين) المقيمين في الخارج كل (المثقفين) الذين ظلوا في سورية بأنهم مؤيدون لنظام الأسد، فمجرد بقائهم خارج الاعتقال، أو لمجرّد أن بعضهم يسافر ويعود إلى سورية هو دليل على تعاملهم مع النظام. وفي هذا الوصف إساءة مقصودة، وكأنه مطلوبٌ من الجميع أن يكونوا متشابهين بالمصير والمسار، وكأن المطلوب هو تفريغ سورية من الجميع، بينما يفترض أن يكون أول مطالب المثقفين هو تأمين عودة الجميع إلى سورية بضمانات دولية، والبدء من جديد بمرحلة نضالية جديدة للتخلص من كل آثار الاستبداد، بعد فشل أساليب الثورة الأولى، وتحولها إلى حرب قذرة، دمرت ماضي سورية والسوريين وحاضرهما ومستقبلهما.
في المقابل، يعمّم بعض (المثقفين) المقيمين في سورية نظرتهم إلى كل (المثقفين) الذين اختاروا الخروج من سورية، والعيش في أماكن أخرى، فهم، حسب هؤلاء، منتهزو فرص، وكاذبون ومدّعون، ويقبضون ثمن مواقفهم، وخذلوا سورية، وخذلوا الثورة التي يدّعون أنهم أصحابها، بينما الصادقون هم الباقون في سورية حتى الآن. وهذا أيضاً تعميم مجحف، وفيه استعلائية مقابلة لاستعلائية بعض من في الخارج تجاه الداخل، فكما قلنا سابقاً، لكل سببه الخاص في الخروج من سورية. والبحث عن الأمان الشخصي حق من الحقوق الإنسانية. ليس الجميع أبطالاً، وليس المطلوب من الجميع التضحية، وكل خيار شخصي يجب أن يُعامل بمنتهى الاحترام، ليس من حق أحد إصدار الأحكام على الآخرين بناء على خياراته الشخصية، كما ليس من حق أحدٍ تعميم وجهة نظره على الجميع.
الأمر المحق في نظرة من بقوا في سورية تجاه بعض الخارجين منها هو في مطالبة هؤلاء السوريين في الداخل بالصمود ومواصلة الثورة، وهم يعيشون في أماكن نجاتهم وأمنهم الشخصي، فعلى من يريد مواصلة الثورة أن يكون حيث تكون الثورة، في داخل سورية. النضال الفيسبوكي والبعيد مجرّد ادعاء لا أكثر، ومطالبة السوريين الصمود في ظل أوضاعهم الأمنية والاقتصادية السيئة غير أخلاقية. المطالبة المحقّة هي في وقف نزيف الدم السوري، وفي إيجاد حل سريع يحل أزمة المعتقلين والمختفين، ويضمن عودة آمنة للمهجرين والراغبين بالعودة إلى سورية، كي يبدأ الجميع معاً التفكير بمستقبلٍ آخر لسورية.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.