مُتبرّع مُتسلسِل

12 يوليو 2024
+ الخط -

"والد لألف طفل"، عنوان مسلسل وثائقي من ثلاث حلقات يعرض حالياً في منصّة نتفليكس، ويتحدّث عن جوناثان، الشاب الهولندي الثلاثيني الوسيم، ذي الشعر الأشقر الطويل، والموسيقي الرحّالة صاحب قناة في "يوتيوب" يعرض فيها تفاصيل رحلاته. لكنّ شهرته لم تأتِ من هذه الصفات، بل من أنّه أشهر مُتبرّعٍ بالنِطاف في هولندا، تعرّفت إليه بعض النساء العازبات أو المثليّات أو المتزوّجات برجالٍ لا يستطيعون الإنجاب، مِمَّنْ أردن أن يكنَّ أُمَّهاتٍ ويحتجن لتحقيق تلك الغاية أحدَ المُتبرّعين. ورغم توافر بنوك خاصّة بتجميد النطاف، إلّا أنّ قوانين هذه البنوك تمنع عن الأمّ المستقبلية معرفة المُتبرّع أو مواصفاته، والنساء بطلات الوثائقي كلّهنَّ أردن والداً بيولوجياً معلوماً، لذلك لجأن للبحث عن مُتبرّعين عبر "غوغل"، وعثرن على مواقع يَعرِضُ فيها الراغبون بالتبرّع خدماتهم، مع نبذة شخصية لكلّ واحدٍ منهم، وصور قديمة وحديثة له.

لفتت وسامة جوناثان أنظار النساء، فأرسلن له، وقابلنه، وتبرَّع لهنَّ بنِطافه، بعضهنَّ بطرق خارجية، وأخريات عبر المُعاشرة الجسدية، وكلّهنَّ حملن وأنجبن وهنَّ سعيدات بأولادهن. لكنّ الصدمة جاءت لاحقاً حين عرفت هاته النساء أنّ لجوناثان عدداً غير معروف من الأولاد، ذلك أنّه تبرّع لنساءٍ كثيرات مخالفاً بذلك القانون الهولندي، الذي لا يسمح لمُتبرّع واحد بأكثر من 25 مرّة خلال عشرة أعوام.

يُسلّط الوثائقي الضوء على استثمار ذكوري جديد هو النِطاف، ذلك أنّ مسيرة جوناثان في هولندا أكملها في الدنمارك وألمانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وكينيا. كان يسافر دائماً إلى هذه الدول، وينشر في قناته مقاطع من رحلته، ليتّضح بعدها أنّه كان يذهب بقصد إعطاء نِطافه للبنوك، التي تكسب الملايين من  بيعها النِطاف المُجمَّدة. وطبعاً، مع البنوك لم يكن جوناثان مُتبرّعاً، بل كان بائعاً ومستثمراً هذا الامتياز المُربِح في زمن الليبرالية الحديثة، التي غيّرت مفاهيم المجتمعات، وكسرت نمطية الأسرة وشكلها التقليدي.

اتّضح أنّ لجوناثان أكثر من 800 طفل في هولندا والعالم (أُوقِف في 2023 من المحكمة الهولندية تحت طائلة غرامة ضخمة)، وقيل إنّ العدد يتجاوز ذلك بكثير. واتّضح أنّ جميع أبنائه متشابهون، سواء من ناحية اللون والشعر أو من ناحية المواصفات الفيزيولوجية، وحين قرّرت بعض الأمّهات أن يلتقي أبناؤهنَّ بإخوتهم غير الأشقّاء، صُدمن من التقارب بينهم، حتّى أنّ فتاةً في الحادية عشرة وقعت في غرام أحد إخوتها، وأخبرت والدتها بذلك. وهذا ما يُطلِق عليه العلم اسم "فرضية الانجذاب الجنسي الوراثي"، وهو انجذاب يحدُث حين يلتقي شخصان من الدم نفسه للمرّة الأولى.

في حالة جوناثان وأبنائه الألف، يصبح الأمر أكثر خطورة من مُجرّد انجذاب طفولي جرى التعامل معه من الأمّ، ذلك أنّ فرصة التقاء الأبناء، الذين لا يعرفون بعضهم بعضاً، في وقتٍ ما، قد تكون متاحة، ما يجعل من فرضية الانجذاب الجنسي الوراثي قائمة، هذا الانجذاب قد يُفسَّر بالحب أو بالغرام، كما حدث للطفلة، وقد يُؤدّي إلى زنا المحارم، وقد يتزوّج الأخوَان بعضهم بعضاً من دون أن يكونا على علم بقرابتهما، وقد يُنجبان أبناءً من المحتمل أن يشعروا في المستقبل بانجذاب نحو أشخاصٍ من جيلهم يحملون الدم نفسه. وهكذا، يتحوّل هوسُ شخص واحد بنشر جيناته حول العالم جرائمَ إنسانية وأخلاقية، وربّما صحّية عامّة.

إلى أين تذهب البشرية؟ سؤالٌ يخطر لي دائماً وأنا أتأمّل المُتغيّرات الاجتماعية في العالم الحديث، وانتشار ظاهرة الأُمَّهات العازبات، والزواج المثلي، وظاهرة التبرّع بالحيوانات المنوية والبنوك الخاصة بها، والاحتمالات التي تخلفها في حدوث زنا المحارم وزواج الإخوة المجهولين، والآثار السلبية كلّها، التي قد تنجُم عن علاقات كهذه في المجتمعات التي ما زالت قوانينُها تمنع زواج الأقارب، لأنّه قد يراكم صفاتٍ وراثيةً سلبيةً تترك أثراً سيّئاً في الأجيال القادمة.

لا يبدو أنّ مُتبرّعاً مُتسلسلاً كجوناثان معنيٌّ بطرح هذه الأسئلة، فهو رجلٌ مُضطربٌ ومهووسٌ بما يفعله، ويعتقد في نفسه العظمة إلى حدّ أنّ جيناته يجب أن تنتشر في الكرة الأرضية كلّها. وصحيحٌ أنّه مُنِعَ من تكرار ذلك بأمر قضائي، لكنّ الظاهرة منتشرة، وتزداد يوميّاً، ولا يبدو أنّ أحداً يكترث بنتائجها المستقبلية على البشرية كلّها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.