الموت حين يكون رحيماً

28 يونيو 2024

(محمد عمر خليل)

+ الخط -

تعيش إحدى صديقاتي المُقرّبات، هذه الأيام، مأساةً كبيرةً. والدتها في أوائل ثمانينيّاتها، كانت معروفة جدّاً في الوسط السياسي والاجتماعي المصري، حين كانت في أوج عطائها، واستمرّت وقتاً طويلاً، حتّى توفي فجأة أحد أبنائها بعد وفاة زوجها بسنوات عدّة. كان ردّ فعلها على وفاة ولدها الزهد في الحياة، كما لو أنّها ترفض كلّ أشكال الحياة بعد رحيله. لم تعد تخرج من منزلها إلا للطوارئ، لم تعد تذهب إلى الأماكن التي كان يوجد فيها بشكل دائم، لم تعد ترغب في مقابلة الناس. عاشت السنوات الماضية بعد رحيل ولدها في شبه عزلة مع من تبقّوا من أولادها، وكُتبها، وتسلياتها البسيطة القليلة، وقرار خفي بمغادرة هذا العالم بأسرع وقت ممكن. تأكل أقلّ ما يمكن من الطعام، وتمشي أقلّ ما يمكن من الخطوات، وتتحدّث أقلّ ما يمكن من الكلام، وتقابل أقلّ عدد ممكن من الناس.
حدث هذا بالتدريج، حتّى وصلت أخيراً إلى مرحلة رفض هذا القليل من كلّ شيء؛ الطعام والشراب والحركة والآخرين، وكلّ شيء، وهي تُخبر أولادها أنّها تريد الرحيل، وأنّها تريد لأعضائها الحيوية أن تتآكل، وأن يأكل جسُدها بعضه بعضاً، حتّى تنتهي. هذا قرارٌ يبدو أنّها اتخذته بكامل إرادتها، فمداركها لا تزال تعمل في أكمل وجه، ولا تزال تقرأ يومياً قبل نومها القليل، ولا تزال تلعب لعبتها المفضّلة؛ طاولة الزهر، مع أبنائها، لكنّها تُخبرهم، بطريقة قاسية وصعبة، أنّها تريد الرحيل في أسرع وقت ممكن، وهم، أبناؤها، يرونها هكذا من دون أن يتمكّنوا من فعل أيّ شيء لها. قالت لي صديقتي إنّ جسد والدتها يرفض حتّى استقبال إبرة المصل كي تأخذ محاليل تبقيها على قيد الحياة.
سمحت بعض الدول الأوروبية بأن ينهي شخص ما حياته عبر ما يسمّى إبرة الموت الرحيم، وهي تشبه تلك الإبرة التي نعطيها لقططنا أو كلابنا حين تكبر في السن وتمرض وتتألم من دون وجود أيّ طريقة لمساعدتها في الشفاء، وهو أحد أصعب القرارات التي قد يأخذها مربّو القطط والكلاب، لكنّها أيضاً، قراراتٌ رحيمةٌ تجاه هذه الكائنات التي لا تستطيع فهم ما يحدُث لها ولا التعبير عن رغباتها ولا عن آلامها وخوفها. لكنّ الحكومات، التي سمحت بالموت الرحيم، اشترطت أن يطلب الشخصُ نفسُه أخذ هذه الإبرة، وأن يكون بكامل قواه العقلية وإدراكه لما يطلبه، وأن يكون مصاباً بأمراض لا شفاء منها، ولا يوجد معها أيّ أمل في تجاوزها بعد مدّة، ومنعت أن يتّخذ المقربون من الشخص هذا القرار، وإلا تحوّلت الحكاية إلى جريمة قتل. هناك حالة واحدة فقط يُسمح للعائلة باتخاذ القرار فيها، هي حالة الداخلين في غيبوبة طويلة، ولا يرى المتخصّصون أيّ أمل في العودة منها، ويعيش فيها المرضى على أجهزة التنفس، التي تُبقي أعضاء الجسد على قيد الحياة بعد توقّف الدماغ عن العمل. حتّى الشرع الإسلامي سمح بسحب هذه الأجهزة من المرضى المصابين بموت الدماغ تماماً.
أفكّر في حالة والدة صديقتي وأبنائها، أظنّ أنّ الأمر كان سيكون أكثر رأفة بالجميع لو أنّه يُسمح في بلادنا بأن يتخذ شخصٌ ما قرار موته، حين يعجز الطبّ عن تقديم المساعدة، رغم ما في هذا الأمر من قسوةٍ أيضاً، على عائلة المريض. ففي حالة والدة صديقتي، مع قرارها القاسي بالرحيل وإصرارها على تسريع الأمر، رغم ما يسببه ذلك لأبنائها من ألم، يبدو الموت الرحيم حلّاً مثالياً لتتوقّف عن العذاب والألم، والإحساس بالذنب تجاه عائلتها المتفرّغة حالياً للاهتمام بها ورعايتها. قد يقول أحد ما إنّ الوالدة، هنا، تتصرّف بقسوة، وإنّ عليها أن تواصل حياتها حتّى يأخذ الله أمانته، لكنّ الأمر لم يعد بيدها رغم إدراكها كلّ ما يحدث، ذلك أنّ جسدها يستسلم لرغبتها في الرحيل، وهي رغبةٌ قويةٌ جدّاً لديها في ما يبدو، ذلك أنّه حتّى المهدّئات النفسية، التي وصفها لها متخصّصون لم تنفع معها سوى لوقت قليل جدّاً، سرعان ما انتبه عقلها الباطن إلى مراوغتها وعاد ليصدّر لجسدها أمر رفض مسبّبات الحياة. تركيبة البشر النفسية معقّدة جدّاً، ويعجز عن فهمها، أحياناً، أكثر المتخصّصين خبرة، ولدى بعضهم قد تبدو رغبة المغادرة أقوى بكثير من رغبة البقاء، إلى حدّ أنّ العقل الباطن يصبح هو المتحكّم بكل هذا الكيان المُعقّد.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.