هذه المعركة في "فيسبوك"

05 أكتوبر 2017
+ الخط -
لست نشطة على "فيسبوك"، إلا أن المعركة التي نشبت، قبل أيام، بين مترجم وناشر عربيين تجاوزت حدود صفحتيهما على هذا الموقع التواصلي الشهير، فتابعتها، وقد انتشرت على هيئة إشاعات مدعمة بصور عن تدويناتهما المتبادلة خلال ساعات من اندلاع المعركة بينهما!
نعرف أن معارك مثل هذه تحدث كثيرا، بل ربما مثلها من طبائع العلاقات بين الأدباء والكتاب والمثقفين عموما، لكن ما بدا للجميع من متابعة المعركة بين هذين المثقفيْن أن مستوى هذه المعارك قد انحدر كثيرا إلى درجةٍ لا يمكن تصورها، ولا نموذج سابقا لها.
بدا الرجلان وكأنهما سيدتان من نساء الأفلام العربية القديمة في الحواري الشعبية، عندما تقف إحداهما على شرفة منزلها بمواجهة الأخرى في الشرفة المقابلة، لتكيل لها الشتائم المقذعة، فلا تتوانى الأخرى عن الرد بما هو أقذع في وصلة ردح تجعل منهما فرجةً لكل من يقيم في الشارع، أو حتى يمر به مجرد مرور.
في وصلات الردح الشعبية بين نساء الحارات القديمة، في الأفلام العربية حصريا، ما يمكن تفهمه وقبوله، ليس لطرافة الشتائم المتبادلة بسجع منغم وطبيعة الأداء الكوميدي للممثلتين غالبا وحسب، بل أيضا لأنه يصدر من وسط لا يملك من أسباب التحضر ما يعينه على ممارسة اختلافه بشكل راق، على العكس من بطلي ليلة "فيسبوك"، واللذيْن عرفهما القارئ العربي، أو على الأقل عرف أشهرهما باعتباره أهم مترجم عربي في العصر الحديث! ما رسم له في مخيلاتنا صورةً أقرب إلى المثالية، عزّزها حضوره الدافئ في ملتقيات وندوات ومحاضرات ومهرجانات، حضرت بعضها ممتنة للفرصة التي جمعتني به، لأعبر له عن تقديري جهوده الرائعة في نقل كثير من روائع الآداب العالمية إلى اللغة العربية! ولكنني أشعر الآن بالخجل من تلك الدقائق التي جمعتني به، بعد أن اطلعت على جانب حقيقي وطازج من أسلوبه في التفكير والكتابة والحوار والتعاطي مع الآخرين.
عندما وصلت إلي الرسائل والتدوينات المتبادلة بين الرجلين، حرصت على قراءتها أكثر من مرة، على الرغم من صعوبة الأمر علي، بسبب الانحطاط اللغوي الذي لا أكاد أتذكر أنني قرأته في سياق أي معركة سابقةٍ من معارك المثقفين المعتادة! لكنني كنت أريد التأكد من أن ما أقرأه الآن هو الحقيقة التي حجبتها اللغة الرفيعة للترجمات الكثيرة، المرصوصة على أحد رفوف مكتبتي بجلالٍ يليق بها! صحيح أن معارك تحدث دائما بين المبدعين والمثقفين في كل مكان وزمان، وأن تاريخنا الحديث، والقديم أيضا، مليء بمثلها، لكن الجديد هذه المرة هو السقوط الأخلاقي المدوي الذي عبر عن نفسه بسقوط اللغة والمصطلحات والشتائم الثقيلة المتبادلة على أرضيةٍ لزجةٍ من الاتهامات المتنوعة بالفساد المالي والأخلاقي، عبر مستويات عدة، ومن دون أي تحفظ أو مبالاة بأي شيء، أو آخرين من شهود الواقعة العلنية المباشرة، بحكم تواترها على صفحات موقع تواصلي شهير، يتابعهما من خلاله مثقفون وقراء كثيرون!
أعرف أنها، بهذا التوصيف الدقيق لها، حالة استثنائية وفردية وخاصة، وربما عابرة، لكن هذا الأمر لا يمنع من اتخاذ هذه الحالة نموذجا لما يحدث في الخفاء غالبا بين أفراد وسطٍ ينظر إليه العامة على أنه رفيع، نسبة لما ينتجه من أدبيات إبداعية رفيعة!
لكن من يدري؟ فلعل ما جعل من هذه الحالة استثنائية وعابرة أنها حدثت على "فيسبوك"، حيث لا مسؤول نشر يهذّب النص بما يليق بالقارئ، ولا محرّر يحجب الشتائم التي قد يحاسب عليها القانون، ما ساهم في فضحها على هذا النحو الذي يجعلنا، نحن القراء، نفكر بإعادة النظر في كل القيم والآداب المرصوصة على رفوف مكتباتنا بأناقة ورقي.
دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.