بانتظار فنجان قهوتي

18 يوليو 2024

(Getty)

+ الخط -

أستعد لاحتساء فنجان فهوتي الأول لهذا اليوم بعد الانتهاء من صلاة المغرب. يوم الصيام الطويل خارج الزمن الرمضاني منحني فرصة مواتية للتفكر بقيمة الوقت في حياتنا.

دقّات الساعة الثابتة المعلقة أمامي. صفحات التقويم المتتالية في جهاز الهاتف. شروق الشمس وغروبها. ومواعيد العمل أيضا. كل ما له علاقة بالتوقيت وما يحيل إلى شعورنا بمضي الوقت.. أعيشه بانتظار ما سيحدُث.

الوقت، بأشكاله المتعدّدة، هو الرفيق المنظم لإيقاع حياتنا. ومع ذلك، كثير منا يتعامل معه باستهتار غير مدرك لقيمته في حياة بشرية تنتهي وإن طالت إلى مداها الأقصى.

ورغم أن الزمن يمنحنا في مسيرته المستمرّة الفرصة للحياة وللنمو والتعلم والحب إذا امتلكنا الحكمة اللازمة لإدراك قيمته، إلا أننا كثيرا ما نتجاهل الشرط مأخوذين بإغراءات اللحظات الخاطفة.

في أحيانٍ كثيرة، نجد أنفسنا مندفعين، خلال أيامنا، عبيداً للجداول وقوائم المهام. بالكاد نسجل الثواني التي تمرّ من بين أصابعنا، منشغلين جدًا بالمستقبل أو مثقلين بالماضي، إلى درجة أننا نفشل في العيش بشكل كامل في اللحظة الراهنة، تلك الشريحة الثمينة من الوقت التي هي ملكنا حقّاً. وفي أحياناً أخرى، نبدو كما لو أننا نعيش اللحظة وحدها، فلا نقدر ما قبلها ولا نخطّط لما بعدها.

لكن ماذا لو اخترنا، بدلاً من ذلك، أن نحتضن الوقت باعتباره حليفنا الأقوى؟ ماذا لو تعلّمنا أن نرقص معه، بدلاً من أن نتسابق ضده باستمرار؟ في التأمل الهادئ لشروق الشمس، قد نلمح هدية الوقت الحقيقية، فرصة البدء من جديد، للتخلّص من ثقل الأمس واستقبال كل يوم بإحساس من الدهشة. في الضحك الذي نتقاسمه مع أحبائنا، يمكننا أن نشعر بالوقت يتوسّع، ويعلقنا في جيوب من الفرح يبدو أنها تدوم إلى الأبد. وفي مرور الفصول الحلو والمر، نتذكّر أن التغييرات الأكثر عمقاً هي فقط عابرة، وأن عجلة الزمن ستستمر في الدوران، في سبيل النمو والحياة والموت أيضاً.. ويا للمفارقة.

نعم... ربما يكون الوقت أثمن مواردنا وأكثرها مراوغة. إذ غالباً لا يمكن تخزينها أو حفظها يوماً آخر مثلاً؛ لا يمكن إنفاقها إلا لحظة بلحظة في الاختيارات التي نتخذها والتجارب التي نختار احتضانها. ومع ذلك، ومن المفارقة مرّة أخرى، أن الشيء الوحيد الذي نمتلكه جميعاً بالقدر نفسه، 24 ساعة في اليوم، 365 يوماً في السنة!

الفن الحقيقي لممارسة الحياة أن تتعلّم تقدير الوقت وإدارته بحكمة وثقة. يتعلق الأمر بإيجاد التوازن بين الاندفاع نحو المستقبل والشعور بالشلل إن كنّا ما زلنا عالقين بالماضي، قبل التخطيط والاستعداد لما ينتظرنا في الغد.

ربما أعظم درس يعلمنا إياه الزمن التواضع والامتنان لله سبحانه وتعالى. لأنه في المخطّط الكبير للكون، حياتنا ليست سوى غمضة عين. ومع ذلك، خلال تلك الفترة العابرة، تُمنح لنا الفرصة لترك علامة لا تُمحى، لترك العالم مكاناً أفضل مما وجدناه عليه.

الوقت ليس عدوّنا لنخافه ونحاربه، بل هو رفيقٌ نثق به، ليرشدنا خلال فصول حياتنا. إنه البندول الذي يحافظ على إيقاع أيامنا، والساعة الرملية التي تذكّرنا بالاعتزاز بكل حبّة رمل ثمينة. لذلك دعونا لا نبدّده، ولا نعتبره أمراً مفروغاً منه. دعونا نحتضن كل اللحظات، ونحتفل بها، ونسمح لها بتغييرنا، لمساعدتنا على أن نصبح أكثر تحكّماً في قرارتنا الشخصية ومشاعرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين.

أكمل احتساء فنجان قهوتي بنهاية يوم قضيته صائمة وأنا أتفكّر بنعمة اللحظات التي نهدرها غالباً لمجرّد أنها معتادة أو أنها أصبحت جزءاً من جدولنا اليومي وحسب.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.