ليس دفاعاً عن الدين

02 اغسطس 2016
+ الخط -

عرف القرن العشرون، ومن بعده بداية الواحد والعشرين، نزوعاً إلى اتهام الديانات التوحيدية، وتحميلها مسؤولية الحروب، وما يتصل بها من تعصّب وعنف، إلا أن مراجعةً  للتاريخ البشري، منذ بداياته وإلى اليوم، قد تضطرّنا إلى طرح الموضوع بصيغة أخرى: ألا يكون للعنف جوانب مقدسة بديلة، كتلك التي أظهرتها الستالينية أو النازية خلال القرن الماضي؟

في عدد من مؤلّفاته، يركّز الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، ريمون آرون، على وحشية الحروب الدينية التي اشتعلت في فرنسا في القرن السادس عشر، معتبراً أنها طبعت بشكل كبير الذاكرة الجماعية إلى درجة أن الفرنسيين ما زالوا، وبعد مضي أربعة قرون ونيف، يربطون بشكل عفوي بين الدين والحرب، مهملين بشكل تام تجريمَ الأيديولوجيات التي لم تكن، في الواقع، أكثر من "أديان علمانية".  

أيضاً اليوم، يتساءل الصحفي والباحث الفرنسي المعروف، جان كلود غييّوبو، في كتابه "عذاب الحرب" (2016): لماذا يصنع الإنسان الحرب ويحبّ صنعها. "أنا أفضّل إرجاع هذه الانحرافات القاتلة إلى "أمراض الإيمان" التي بإمكانها أن تصيب اليونان القديمة، الكنيسة الكاثوليكية، الإسلام، اليهودية، وبالطبع الإلحادية حين تتحوّل إلى دينٍ علماني"، مستشهداً بـ"حرب بيلوبونيز" التي استمرت 27 عاماً (431 - 404 ق م)، ما بين أثينا وإسبرطة، بحيث اعتبرها المؤرخون مأساة التاريخ الإغريقي، وقد اشتهرت بوحشية معاركها وعنفها، مضافاً إليهما وباء الطاعون الذي استشرى في حينه.

هذا، ويقدّم المحلّل والطبيب النفسي، جيرار حدّاد، قراءةً أخرى لظاهرة التعصّب والعنف، فيكتب في مؤلفه "في يد الربّ اليمنى" (2015): "إن الخلط بين التعصّب الديني والشعور الديني يعود إلى ضعفٍ في التفكير... فالتعصّب يتبدّل شكله بحسب الحقب والأماكن". إنه يرى إليه كجرثومة متحوّلة، أو كوحشٍ كلما قُطعت رؤوسه المتعددة، عادت فنمت، وذلك على أربعة مستويات: الدين بطبيعة الحال، وإنما أيضاً، القومية، العنصرية والتوتاليتارية. فالتعصّب برأيه هو أمراض الكونيّ، حين يقتصر على حقيقةٍ واحدةٍ تلغي كل اختلاف.

هل يعني كل ما تقدّم ضرورة تبرئة الأديان التوحيدية من لوثة التعصّب والعنف، واعتبارها من متلازمات الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان؟

في كتابه "العنف والتوحيد"، يرى عالم المصريات الألماني، يان أسمان، أن الديانات التوحيدية لم تخترع فكرة الإله الواحد فحسب، بل أنها أحدثت ثورةً لم تترك المجال لغيرها من حقائق الآخرين، فدشّنت بذلك نوعًا جديدًا من العنف. في الديانات القديمة، كانت الآلهة هي القضاة وحماة القانون وموزّعة المكافآت والعقوبات وفقًا للسلوك، غير أنها لم تكن مشرِّعة. هم الملوك والحكماء من كانوا يضعون القوانين. من هنا، فإن إله الكتاب المقدس هو أول إلهٍ في تاريخ الأديان يتعاطى التشريع.

عبر تقبّله اللّوحين، تلقى موسى القانون كتعبير يرمز للإرادة الإلهية. والقانون هذا معطىً مرة واحدة وإلى الأبد، وهو يحكم  مجالات العبادة، وممارسة السلطة السياسية، والأخلاق، كلها معا، بعد أن كانت تنتمي، في دياناتٍ أخرى، إلى مجالاتٍ منفصلة.

عمل التوحيد، برأي أسمان، على احتواء عنف الطقوس والتضحية، وأنتج عملاً حضاريًا بترسيخ القوانين وقواعد السلوك البشري في الإرادة الإلهية، غير أنه أدرج أيضًا شكلاً جديدًا من أشكال العنف، يُمارس باسم الإله وشرائعه، هو العنف القائم على دوافع دينية. هذا ويكمن أحد الأسباب الرئيسة للعنف التوحيدي في السلطة التي يتمتع بها "التمييز الموسوي" في شحذ التعارض بين الحق والباطل. وليس هذا التمييز، في الواقع، عنيفًا في ذاته، لكنه يصبح كذلك، إذا ما بدأنا نرى في الحق والباطل سمات كلٍّ من الصديق والعدو.

ختاماً، في كتابه "مفهوم السياسة" (1932)، عرَّف كارل شميت، وهو الفيلسوف والحقوقيّ النازيّ، السياسة على أنها موضع التمييز بين الصديق والعدو. وإذا ما نقلنا فكرته تلك إلى المجال الديني، ومع اقتراب نهاية العالم الكارثي وغضب الله المتزايد، فقد بات يتعيّن على كل فرد أن يكرّس نفسه لمحاربة أعداء الإله، فيكون بذلك من المؤمنين الناجين.

 

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"