أين هو الحبّ؟
أين هو الحبّ، وما الذي بات يشغلنا جميعاً عنه؟ هل هو ما تراجع وانزوى حتّى اضمحلّ واختفى، أم أنّنا نحن من جافيْنا ونأينا وابتعدنا، حتّى نسينا؟ هل كان سَحاباً أبيضَ ظلّل أجيالاً من البشرية، ثمّ لسببٍ ما، انحسر من فوق رؤوسنا، فما عاد يحمينا من فجور السماء، أو يُضفي مسحة كآبةٍ مُحبّبة، أو يخاطب أفئدتنا المكتوية بلهيب الشوق، ليسلوها بأشكالٍ وصورٍ تتشكّل بحسب أهواء الرياح؟
حقّاً، أين هو الحبّ؟ هل جفّت ينابيعُه، يبست أرضُه وتصحّرت، مُحيت خريطتُه وأزيلت عن وجه الكرة الأرضية؟ منذ عقود طالت، نحن لم نقع على روايةٍ تحكي لنا حبّاً ملحميّاً، أو على فيلم سينمائي يضع تحت المجهر ملامح أهل الهوى وهم يختلجون لوعةً وفَقْدَاً، قبل أن يسبحوا في مياه الانتشاء والغبطة. أين هي تلك الأفلام التي كانت تُبقي أعيننا مفتوحة على اتسّاعها خشية أن ترمش فتفوتها لفتة، خلجة، أو تُسيّل دموعَنا فيما تقضم غصّةً حارقة؟ ما الذي حلّ مكان "قصة حبّ" و"الوسادة الخالية"؟ أين هو عمر الشريف وفاتن حمامة في "صراع في الوادي"، سارة مايلز وروبرت ميتشوم في "ابنة رايان"، جولي كريستي في "دكتور جيفاكو"، صوفيا لورين ومايستروياني في "عبّاد الشمس" و"يوم خاص"، أين هي تلك الروايات التي صوّرت لنا قمماً من الوله يصعب بلوغها؛ "آلام فيرتر الشاب"، و"آنا كارنينا"، "ومرتفعات وذرينغ"، و"روميو وجولييت"، و"مدام بوفاري"، و"جميلة السيّد"، و"الجميلات النائمات" و"ذهب مع الريح"؟ قصص عشق بزاويةٍ واسعة (وايد أنجل) ومقاسٍ كبيرٍ غذّت أحلامنا وأمانينا، وتركت لنا مشاهد عناق ووصل بقيت مُعشّشة في أفئدتنا؟
أجل، الحبّ ما زال حيّا، نسمع ونعرف ونرى، ونودّ أن نصدّق أنّه ما زال على حاله، متوقّداً وحيّاً مثل جوهرة تخفيها الرمال، حتّى لو أننا ما عُدنا نراه وقد كفّ أن يكون حالة عامّة، حضوراً بديهياً، تقليداً إنسانياً طبيعياً لا بدّ للجميع من تعلّمه وممارسته. اليوم، هو حديقة ضيقة، هامشية، خاصّة، نتفرّج عليها من الخارج، ويصعب ولوج بابها الخفي، قضية غير جادّة لا تستأهل الانكباب عليها أو دراستها، كما سبق أن فعل ابن حزم الأندلسي ("طوق الحمامة المفقود")، أو ستاندال ("عن الحب")، أو إريك فروم ("فن الحب") أو رولان بارت ("مقاطع من خطاب عاشق")، أو سواهم ممّن كتبوا عن أحوال الحب وشؤونه. اليوم، هو بالكاد جزءٌ صغيرٌ من أحلام أطفال ومراهقين، لا مراجع أو نماذج يتّكئون عليها لكي يتعلّموا السير على دربه، وليتعرّفوا إلى أدواته، وليمتثلوا ببطلاته وأبطاله. لقد أصبح عشّاق اليوم فئة على حدة يُنظر إليها كما يُنظر إلى مُصابين بمرضٍ نادر، أو إلى عاجزين يجهلون التعاطي مع الواقع، ويعيشون في عالمهم المغلق الصغير. أمّا الآخرون، العشّاق الجدد، الحاضرون الدائمون في أذهان صغارنا، فهم نجوم شاشات الواقع والسوشيال ميديا والفنّانون والرياضيون الذين نتفرّج على قصص علاقاتهم العابرة المُتبدّلة، كما نتفرّج على الإعلانات الدعائية، إذ يبقى كلُّ شيءٍ في السطح، حيث المشاعر قابلة كالملابس والأكسسوارات للاستبدال، حيث الحبُّ لا يتجلّى وحيداً، إذ يلزمه جسم منحوتٌ بمباضع أطباء التجميل، وملابس فاخرة، ومنازل ضخمة تعيش فيها عشائر جديدة، مثل آل كارداشيان، وسواهم من النجوم المُستحدَثين الذين يُمثّلون التفاهة في أقصى تجليّاتها. أين تُراه سيذهب عاشق يومنا هذا، اليتيم الصغير؟ كيف تراه يرى الحبّ، ومن ذا الذي سيدلّه ويخبره ويعلّمه كيف يكون؟ إلى أيِّ نجم يرنو في السماء، وقد باتت النجوم لعباً إلكترونية تتكسّر وتُستبدَل كلّ عام.