غربان أنيقة وشعرية وحقيقية

10 ديسمبر 2015
+ الخط -

مغامرة مذهلة يُقدم عليها القاص والروائي، سلطان العميمي، في مجموعته القصصية الجديدة، فيفرغها من أسرارها عبر القصة الأولى فيها، والتي لا أحسبها سوى توطئة أجاد غمسها في مياه واقعه المعاش، كما أزعم، لتكون المبتدأ والمنتهى، وليستخدمها من يجيد قراءة القصة القصيرة مفتاحاً عاماً لبقية قصص المجموعة المغلقة على نفسها.

لا يحتاج القارئ سوى إلى القليل من المعرفة بعوالم هذا الكاتب في تشكيل النصوص السردية، ليكتشف أنه لا يخترع البارود في هذه القصة التي افتتح بها مجموعته، بقدر ما يشعله، فتنطلق، من خلاله، عوالم مدهشة يتكئ فيها على خصوصياته وعمومياته، متضافرة بنسيجه اللغوي الخاص. في هذه القصة التي عنونها "ألتقط نفسي.."، يحاول العميمي أن يلتقط نصه من بين بقايا الحكايات والأغاني والوقائع اليومية الصغيرة العذبة، ليصوغها في حوار دافئ وحميم وواقعي جداً، على الرغم من أحابيل اللغة والتباستها الذكية فيه. لكنه على الأقل يتخذها وسيلة لاستعراض مهارته اللغوية العالية، ومعرفته الموسيقية الرفيعة، حتى ليتحول هذا الحوار المكتوب، وكأنه رسائل هاتفية متبادلة، في لهو ذكي إلى قصيدة حقيقية، فيعيدنا، من حيث لا ندري ربما، إلى مسألة تداخل الأجناس الأدبية في الكتابة، كما تفعل بقية نصوص هذا الكتاب والمجموعتين القصصيتين اللتين سبقتاه للعميمي.

الكتابة لغة في البداية، وفي النهاية أيضا، والكاتب الذي جرّب لذة القص، روايةً وقصةً قصيرةً، يدرك ذلك، ويعزّزه بكل ما لديه من معارف على صعيد هذه اللغة الفصيحة والعامية أيضا. وفي مجموعة "غربان أنيقة"، وصل الكاتب إلى ذلك المعنى الدقيق للكتابة، كما يبدو، من خلال معظم قصص المجموعة التي تضم ستا وثلاثين قصة قصيرة، من الواضح تماماً أن الكاتب أنتجها في فترات مختلفة، يسبق بعضها فترة كتابة روايته اليتيمة "ص ب 1003"، ويتزامن بعضها معها، ويبدو بعضها الآخر كأنها حصادها في حضور قراء الرواية تحديداً.

والواضح أن العميمي ما زال مخلصاً لفن القصة القصيرة، في الزمن الذي يتناهش فيه معظم الأدباء العرب، كبارهم وصغارهم، جسد الرواية، حياً وميتاً، بكل ما أوتوا من شراهةٍ للكتابة، ولمغانمها أيضاً. ويبدو إخلاص العميمي للقصة القصيرة واضحاً، ليس لأنه أصدر، حتى الآن، ثلاث مجموعات قصصية، مقابل رواية، بل لأنه، كما بدا لي، اهتم بهذه المجموعات على الصعيدين، اللغوي والموسيقي، أكثر بكثير مما فعل في الرواية. وخاض فيها غمار التجريب بجرأةٍ تحسب له، حتى ظهرت كل قصة وكأنها مشروع إبداعي مستقل على صعيدي اللغة والتركيب.

في قصة "وحيدة"، مثلاً، مجرد اصطفاف ذكي لعناوين شكلها باسترسال محكم وظريف كقصة، قبل أن نصل إلى التنوير الأخير. ويتكرر الأمر في القصة التي حملت عنوان المجموعة، حيث يكسر الكاتب رهافة العنوان، بومضةٍ خاطفةٍ، في النهاية، لتقابل تشكيل الغزالة بأناقة الغربان، في مفارقة تمثل واحدة من مفارقات الحياة الصادمة عادة. ومع أن صاحب "تفاحة الدخول إلى الجنة" و"الصفحة 79 من مذكراتي" اجتهد في تنويع موضوعات قصص مجموعته الثالثة، إلا أنه ظل مهموماً برسم الأجواء النفسية لشخصياته، بكل مناخاتها الإنسانية، متنقلاً ما بين الحب والحرب، برشاقة أسلوبية شعرية ومسرحية لافتة، حتى ليستطيع القارئ أن يتلقى بعض أجزاء قصصه، كقصائد ومسرحيات مكتملة، مثل قصتي "ذاكرة مثقوبة"،  و"عيون".. وغيرهما! لكن، وقعت بعض القصص القصيرة جداً في فخ الرتابة والتوقع والمفارقات المكشوفة، ولم ينقذها سوى لغة العميمي العالية، والتي تجلت في أكثر من مفصل، نختار منها، ختاماً لهذا المقال، مفصلا من  قصة "ذاكرة مثقوبة"، وردت تساؤلات في منتهى الشعرية؛

"كماذا سقطت؟

كسنوات أولى من ذاكرة طفل كبر فجأة

كحلم استيقظ صاحبه من نومه، ولم يستطع تذكره

فغاب إلى الأبد

كماذا؟

كأمس الذي لن يعود

ككلمة خرجت من فم صاحبها"

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.