الصورة والسكين في فلسطين

16 أكتوبر 2015
+ الخط -
لم يختلف الفلسطينيون، بجميع شرائحهم الثقافية والسياسية والشعبية، على تسمية الحراك الراهن على الأرض الفلسطينية من مواجهات عنيفة، كما اختلفوا اليوم، فتارة يسمونه هبّة شعبية، وتارة انتفاضة ثالثة، وتارة أخرى حراكاً شعبياً، وأخرى انتفاضة الشباب. في الانتفاضتين السابقتين، لم يكن هناك اختلاف على التسمية. كانت الأولى معروفة باسم انتفاضة الحجارة، كون السلاح الوحيد الذي استخدمه أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية كان الحجارة. وعرفت الثانية باسم انتفاضة الأقصى، بسبب انطلاقها دفاعاً عن المسجد الأقصى، عندما دخله أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق.
يعكس الاختلاف على التسمية إرباكاً لدى النخب السياسية، بسبب المفاجأة مما يختزنه المجتمع الفلسطيني من استعدادات للمواجهة، ما أصاب هذه النخب بالغبش وانعدام الرؤية، خصوصاً وأن السلاح الذي لجأ إليه الشباب المنتفضون كان السكين، في معظم الحالات الصدامية مع قوات الاحتلال ومليشيات المستوطنين المتوحشين. وعلى الرغم من تصاعد وتيرة العنف الذي يمارسه الاحتلال والمستوطنون، إلا أن هذا الحراك لم يصل بعد إلى حالة انخراط الشعب، بكل فئاته المختلفة، بالتصدي والتفاعل مع الشباب، فقد شهدنا أن العنصر البشري الفلسطيني المشارك مقتصر على فئة الشباب من الجنسين، ولم يصل إلى مرحلة مشاركة بقية فئات المجتمع.
إلى قسوة الاحتلال وممارساته الوحشية من عنف وسرقة الأراضي والحواجز والإذلال وإطلاق الحرية لميلشيات المستوطنين يعبثون بالأرواح والأرض والفضاء، عانى الفلسطينيون، في الضفة الغربية وقطاع غزة، تراكمات من اليأس والفقر والشعور بالخيبة والغبن والعزلة والقمع من السلطتين في غزة ورام الله. لم يكن هذا هو الحلم الذي رعاه الفلسطينيون، في الانتفاضتين السابقتين، بدمهم وعرقهم وعوزهم وقيود حركتهم، وأصبح الناس يشعرون أنهم محاصرون بين جدارين، جدار الفصل العنصري الإسرائيلي والجدار الفاصل بينهم وبين ممثليهم السياسيين في السلطة المشلولة في رام الله، وفي السلطة الإقصائية المهيمنة بقوانين شرعية لم يعتدها الناس في غزة، وفصائل لم يعد لديها ما تقدمه سوى الجعجعة أو الخنوع لما تمليه هذه وتلك.
وفي كل هذا الجحيم من الضياع والاغتراب، نشأت طبقة من المثقفين والجمعيات غير الحكومية، فتحولت رؤيتها إلى ما تنتجه من أفكار وتحليلات في مراكز يطلق عليها مراكز أبحاث وفكر، لا تمت بصلة بما تنتجه إلى معاناة الأغلبية في المجتمع التي تُركت في عراء العزلة والبؤس واليأس. وعندما بدأ شباب هذه الأغلبية الفقيرة بالانتفاض، ولم تجد من يأسها سوى السكين تفرغ من نصله يأسها المضاعف، التقط فنانون وسياسيون هذه السكين، ليجعلوا منها أيقونة نضالية جديدة، معبرين عن فقر الخيال، وغافلين عن سكاكين "داعش" التي صارت رمزاً لوحشية الأصولية الإسلامية التي شوهت صورة المدافعين عن الحرية والحق والعدل والمساواة في بلاد المشرق العربي، فظهرت البوسترات التي رسمت خارطة فلسطين نصلاً لسكين، وحمل، حتى اليساريون من الفصائل، السكاكين والبلطات والفؤوس في مظاهراتهم، في مشهد لا يدل إلا على الانحطاط الفكري الذي وصل إليه الفكر السائب، والمنفلت من كل رؤية واضحة لمفاتيح الصراع مع العدو الصهيوني، وما أفرزته حراكات الشعوب العربية، من أجل حريتها من دروس الخيبة والفشل التي كان من الممكن أن يستفيد منها الفلسطينيون في صراعهم المستمر.
ولو نظرنا إلى تلك الصور التي قدمها لنا الحراك اليوم، وخصوصاً صور الفتيات وتأويل النخبة لها، لن نجد تأويلاتٍ كثيرة خارج النظرة الذكورية المندهشة من وجود الفتيات بلباسهن العصري، وأجسادهن الممشوقة وحركات أجسادهن الجموحة بحلم التحرر والحرية، وهن يقذفن الحجارة أو يستخدمن المقلاع. وها نحن، اليوم، أمام حراك لا نعرف مصيره ولا نهايته في ظل الوضع السياسي التالف والهش، وإن كان يطرح أول مرة حضوراً وتصدياً شبابياً لقوة الاحتلال، ولحالة الوهن والإنغلاق والعجز الفلسطيني السائدة منذ سنين.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.