أول الفتحاويين في المخيم

15 سبتمبر 2017
+ الخط -
مات فؤاد عبد الكريم الشرقاوي في مخيم عين الحلوة. مات الفتحاوي الذي أخذني إلى أول اجتماع حركي لي في 1968. مات قبل أيام، بعد معاناة من المرض، والمخيم يعيش احتضاراً منذ سنواتٍ قد يؤدي إلى وفاته في مذبحةٍ تُسنّ فيها سكاكين كثيرة، مصقولة بعناية شديدة.
كان فؤاد الشرقاوي من أوائل الفلسطينيين في مخيمنا، وبين أولاد حارتنا الذين التحقوا بحركة فتح منذ انطلاقتها، وكنا نحن الصغار في أثناء حرب يونيو/حزيران قد دخلنا، من حيث لا ندري، في مدارك السياسة، والطموح الذي زرعته فينا انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في الأردن. كنا نحلم بالانعتاق، ولكنا لم نكن نعلم أين الطريق المؤدي إلى الانعتاق. عندما بدأت حرب حزيران، جُندنا، نحن الفتيان والصبايا، في لجان الدفاع المدني، واهمين أن الحرب ستأتي إلينا وستطول.
رحنا ندور في حاراتنا والحارات المجاورة، ونطلب من الناس التخلص من أعواد الحطب حول سياجات البيوت، خوفاً من الحرائق التي قد تسببها صواريخ الطائرات التي قد يكون المخيم هدفاً لها. في تلك الفترة، كان فؤاد الشرقاوي ناشطاً سرياً في صفوف حركة فتح، وربما كان يتأمل نشاطنا من حيث لا نعلم. في بداية 1968، ناداني من بيتنا، وأسرّ لي أن غداً سيكون أول اجتماع حركيّ لي، وأن لا أخبر أحداً بذلك، حتى والديّ.
كان الاجتماع الحركي في مطعم ومقهى الشرق في صيدا، وفي الطابق الثاني المطل على قلعة صيدا البحرية، لمزيد من الحذر والسرية. قال لنا إن مسؤولاً حركياً سيأتي من بيروت، ليكرس عضويتنا في الحركة. كان ذلك المسؤول سمير أبو غزالة، المعروف وقتها بالحاج طلال. كان دمثاً، ويبدو من ملامحه وهندامه وطريقة حديثه وذقنه الحليقة أنه لا يشبهنا، نحن أولاد المخيمات المغبرّين. بعد الاجتماع، قال لنا الحاج طلال: أنتم، منذ اليوم أعضاء في حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح. وكان ذلك اليوم بداية دخولنا في الطريق الذي بحثنا عنه من أجل فلسطين، وبداية الشعور بأننا أصبحنا كباراً.
مثّل لنا فؤاد الشرقاوي بوابة الدخول إلى عالم السرية في العمل الوطني، وبداية الشعور بقيمة عالية لوجودنا، لكن خلافاً نشب، بعد شهور من عضويتي في حركة فتح، بين أخي الكبير وفؤاد الشرقاوي بسبب تغيّبي عن البيت في اجتماعات حركية، فتشاجرا. وبذلك انتهت علاقتي بحركة فتح، فقد انحزت لأخي في الشجار. كنت في السابعة عشرة عاما.
ظلّ فؤاد الشرقاوي عضواً نشطاً في الحركة، وذهب في دورات تدريبية إلى طرطوس ودمشق وجنوب لبنان، وصار من أولاد حارتنا الحريصين على المخيم والحركة وفلسطين، وناضل بتواضع، وبلا ضجيج وبلا استعراض، إلى أن مات قبل أيام في الثانية والسبعين عاما.
لم يكن المخيم الذي عرفنا فيه النضال والمناضلين من أجل فلسطين هو مخيم اليوم، بعد أن تم غزوه من الجماعات الإسلامية، بمرجعياتها المختلفة. كان المخيم كريماً بحبه وتبجيله للذين يعملون من أجله.
مات فؤاد الشرقاوي، وهو يشهد ما آلت إليه مصائر أهل المخيم، وما يُعد له من مذابح تأتي كلها في سياق ما يجري في سورية من مذابح وعمليات اقتلاع وتطهير عرقي وطائفي. اليوم تدخل قوات خاصة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة إلى عين الحلوة، ما يعني دخول القوات السورية إلى المخيم. واليوم يشتد التنافس بين حركتي حماس وفتح، للسيطرة على المخيم، في إطار الترتيبات الإقليمية، للقضاء على كل القوى الخارجة عن المحور السوري الإيراني وامتداداته في لبنان.
أنظر اليوم إلى البعيد، فلا أرى شيئاً مما حملته أحلامنا ماضياً، فقد اختفت تلك الأحلام البريئة في أن يكون المخيم أرضاً خصبة لمسيرة التحرير والعودة إلى فلسطين.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.