تونس ومغادرة السلطة بعد الثورة

21 سبتمبر 2014

حفل المجلس الوطني التأسيسي لإقرار الدستور التونسي (يناير/2014/فرانس برس)

+ الخط -

بإعلانه عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المرتقبة في تونس، احتراماً لالتزاماته الأخلاقية، التي تعهد بها أمام الرباعي للحوار الوطني، يكون مهدي جمعة، خامس رئيس حكومة يغادر السلطة بعد الثورة بشكل سلمي، من دون أن تُكرهه الجماهير الغاضبة، أو الجيش، أو ما شابههما، على مغادرة السلطة. جمعت تونس، في فترة قصيرة، تجارب منفردة وطريفة في مغادرة رؤساء الحكومات السلطة، في محيطٍ لا يغادر الحكام عروشهم، إلا إلى المقابر أو المنافي.

رؤساء حكومات ما بعد الثورة في تونس يمثلون نماذج متعددة، منهم من غادر لعدم قدرته على تحمل مزيد من ضغط الشارع، في ظل تنامي المد الثوري، وعدم قبول الشباب به، فأجبر تحت ضغط اعتصامات القصبة واحد والقصبة اثنين على أن يغادر. كانت تلك حال محمد الغنوشي، الذي قدم استقالته.  كان المد الثوري آنذاك في أوجه، فرفض الشباب منطقة القسمة أو التعايش مع بقايا النظام القديم. غادر الرجل قصر الحكومة بالقصبة، وما شفعت له الدموع، التي كفكفها في خطاب التوديع. ولكن، وبقطع النظر عن موقفنا من ماضيه السياسي، وهو الوزير الأول لزين العابدين بن علي أكثر من عقد، سيذكر التاريخ له أنه نأى بنفسه عن استعمال أجهزة الدولة لفرض بقائه، كما أن أنصاره، المحتشدين آنذاك قرب الملعب الرياضي في المنزه، حافظوا على سلمية تحركهم وتجنبوا الاحتكاك بجماهير القصبة القادمة من عمق تونس وأكثر المناطق حرماناً، وهي التي أشعلت فتيل الثورة، وخصوصاً مدن سيدي بوزيد والقصرين وقفصة والحامة وغيرها. انسحب الرجل من الحياة السياسية بشكل كامل، واختار الاحتجاب.

في ظل افتقاد مؤسسات الدولة شرعيتها ومشروعيتها، آنذاك، أدت المشاورات السياسية بين مختلف الأطياف السياسية والشخصيات الوطنية إلى استقدام الباجي قائد السبسي من سراديب "الأرشيف"، ولم تكن الأجيال، التي رابطت في الشوارع أشهراً عديدة تعرفه. قبلت به على مضض، خصوصاً في حالة إنهاك نالت منها. ولكن، وإن كان الرجل قد تعهد بتعليق "الصباط" (الحذاء) بعد الانتخابات، أي اعتزال العمل السياسي، في تصريحه الشهير، فإن غواية السلطة، والسياسة بشكل عام، ورهان شق كبير من أعضاء حزب التجمع الدستوري المنحل والليبراليين، وحتى اليساريين، على تجربته وعلاقاته الدولية الواسعة، جعلته حصانهم الرابح في ظل إخفاقات حكومات ما بعد الانتخابات. ولقد تعززت شعبية الرجل ونفخ في روحه مجدداً الإعلام وصنّاع الرأي ومكاتب سبر الآراء. يحفظ للرجل ميزة، سيظل التونسيون، على اختلاف مشاربهم السياسية يذكرونها له، وهي تأمين انتخابات حرة، شهد العالم بنزاهتها، ومغادرة السلطة حالما أفرزت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وتسليمها لخلفه حمادي الجبالي، أول رئيس حكومة منتخبة بعد الثورة.

ما بين تلك الانتخابات والانتخابات، التي ستجري بعد أسابيع، غادر رئيسا حكومة الحكم من دون أن تجري انتخابات، أو يسحب منهما البرلمان (المجلس التأسيسي) الثقة، ومن دون أن يجبرهما الجيش على ذلك. كان ذلك تقديراً للمصلحة الوطنية، ووسط مناخ من التوترات الحادة، في إثر اغتيالات إرهابية، طالت الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد.

غادر حمادي الجبالي حين عجز عن تشكيل حكومة غير متحزبة، وفضل الانسحاب من الحكم، وغادر علي العريض قصر القصبة، إثر تداعيات اغتيال البراهمي، في صيف تونسي ساخن، وكان ذلك من شروط الحوار الوطني. لم تكن مغادرة الباجي السبسي والجبالي والعريض الحكم في كل الحالات خاليةً من الضغط والتوظيف السياسي والتجاذبات الحادة، ولكنهم جنبوا تونس اللجوء إلى العنف وإقحام مؤسسات الدولة، وأساسا المؤسسة العسكرية في تلك الصراعات وحسمها. ... هي حالات متعددة، جاءت في سياقات مختلفة، ولكن، كانت نتيجتها واحدة، مغادرة رؤساء حكومات، من دون أن يطلق رصاص أو يسيل دم.

هنا، يمكن التأكيد مجدداً أن الديمقراطية ليست مجرد دساتير وتشريعات، ولا هي، أيضاً، مؤسسات فحسب، إنما هي خصال وسلوكيات تعمم، وتصبح من فرط تواترها، مدرسة وتقاليد. ويستحضر العرب بفخرٍ كثيرٍ حالة عبد الرحمن سوار الذهب، الذي غادر السلطة، على الرغم من أنه قادم من المؤسسة العسكرية. ولكن، أعطت تونس للديمقراطيات الناشئة، على الرغم من تعثر تجربتها، حالياً، درساً مهما يضاف إلى ذلك، ونماذج تصلح للاقتداء. التداول السلمي على السلطة، ومغادرتها أحياناً إذا اقتضت المصلحة العليا للبلاد والوطن ذلك، أمر نبيل، خصوصاً في مراحل الانتقال الديمقراطي.

سيسعى بعضهم إلى تجيير ذلك، وعدّه نتيجة الضغط أو ميزان القوى والغلبة، التي تملي على هؤلاء مغادرة الحكم. هكذا يختزل معارضون تلك التجارب الرائدة، بل يسعى بعض منهم إلى تعيير خصومهم بذلك، فيحثون قواعدهم على التمرد عما يعتبر خنوعاً وضعفاً. نقرأ في ما تكتبه قواعد "النهضة" استياءً كبيراً من مغادرة الحركة السلطة، وهي التي جاءت لها في صناديق الاقتراع، ولكن تتبين حكمة ذلك، الآن. إنها علامة فارقة في السلوك السياسي للنخب العربية، وهي استثناءات قد تؤسس لمدرسة سياسية تونسية. التوافق ليس كلمة السر في ما يحصل في تونس، ولكنه، أيضاً، قناعات وخصال ذاتية، لا بد أن نفهمها ونثمنها. سنفسر ذلك بصلابة المجتمع المدني وقوة المعارضة، ولكن، يظل التفسير ناقصاً، إن لم نستحضر تلك الخصال الفردية، والتي علينا أن نثني عليها، بقطع النظر عن طبيعة الأشخاص، أو انتماءاتهم الإيديولوجية والسياسية.

مغادرة السلطة والقطع مع التصورات، التي تجعلها تؤخذ غلابا حتى تصبح تداولا سلميا تأذن به صناديق الانتخابات، ذلك هو الدرس  العظيم، الذي ربما يصلح للحفظ في ذاكرة عربية لا تستحضر من ذلك  شيئاً  جديراً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.