تونس والانتخابات الرئاسية: المشاركة أو المقاطعة
أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الأسبوع الماضي موعد الانتخابات الرئاسية المُقبلة، السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وبذلك يضع حدّاً للشكوك التي راودت كثيرين بشأن إجراء الانتخابات أصلاً. كانت هناك شكوك حقيقية في مدى جدّية الرئيس في الذهاب إلى الانتخابات. ترك الرئيس أيّاماً قليلة على انقضاء الآجال ليعلن هذا التاريخ، ويُصدِر تبعاً لذلك أمرَ نشره في "الرائد الرسمي" في هذا الموعد المهمّ. غير أنّ تأخير إعلان الموعد لم يكن اعتباطياً، فلقد جرى تجريف مُهمّ شمل الحقل السياسي والتشريعي برمّته حتّى يخلو للرئيس سعيّد المضمارَ، ولجعل المنافسة غير جدّية بينه وبين بقيّة من أعلنوا الترشّح حتّى الآن. ومع ذلك، لم يُبدّد الرئيس الشكوك كلّها التي تحيط بالمسار الانتخابي برمّته.
المناخ الانتخابي المُحتقِن، وهو أمر مُستفحِل منذ تاريخ انقلاب سعيّد على الدستور في يوليو/ تموز (2021)
أول هذه الشكوك هي التحفّظات التي عبّر عنها العديد من متخصّصي القانون الانتخابي، من جامعيين وخبراء، تشمل تحديد الأساس التشريعي لهذه الانتخابات، إذ لم يُنقَّح القانون الانتخابي من الهيئة التشريعية المُتخصّصة (مجلس النوّاب)، بل مَنَح رئيس الجمهورية هذا الاختصاص للهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات، والحال أنّها ليست مُخوَّلة، إذ إنّ لها سلطة ترتيبية فحسب. يقترح خبراء عديدون أن ينظر مجلس النوّاب في التنقيحات كلّها المُتعلّقة بالقانون الانتخابي القديم، ولكنّ رئيس الجمهورية صرّح بأنّ في الدستور ما يكفي من الوضوح للذهاب إلى الانتخابات مباشرة، وفَهِم الجميع أنّ الأمر حُسِم، وأنّ الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات هي التي ستقوم في مقام مجلس النوّاب بإجراء التعديلات المُستوجِبة، في ضوء دستور 2022. وكان هذا الأمر من أشكال تحجيم النوّاب ومجلسهم.
في غياب المحكمة الدستورية، التي تَعطّل مرّة أخرى تركيزها، رغم أنّ للرئيس جميع الصلاحيات من أجل إنجاز هذا الأمر، فإنّه لم يَعدُّها من أولوياته، حتّى لو عين عليها من يشاء ممّن يختارهم لصفات يرتضيها هو، يعتزم العديد من نشطاء المجتمع المدني، وتحديداً المعنيين بمراقبة سلامة المسار الانتخابي، التقدّم إلى المحكمة الإدارية للطعن في سلامة هذه الإجراءات التي اعتمدها الرئيس. أثبتت هذه المحكمة في أزمنة صعبة قدرتها على الحسم القضائي الجدّي في مسائل عديدة ومتفرّقة، حتّى في زمن الرئيس زين العابدين بن علي، بل أسقطت أحكاماً وقراراتٍ رأت فيها إجحافاً بالمُتظلِّمين.
أما المسألة الثانية، التي علينا أيضاً أن نستحضرها، فهي المناخ الانتخابي المُحتقِن، وهو أمر مُستفحِل منذ تاريخ انقلاب سعيّد على الدستور في يوليو/ تموز (2021)، فأعلن بعد ساعات قليلة وضع مسؤولين عديدين تحت الإقامة الجبرية، ثمّ تلت ذلك جملة من الإجراءات التي حدّت حرّية الأحزاب والجمعيات والإعلام. سارعت السلطة الأمنية والقضائية منذ أشهر قليلة إلى سدّ المنافذ حتّى لا يتسلّل مُترشّحون جدّيون يمكن أن ينافسوا الرئيس على المنصب. منذ أكثر من سنة، بادر الرئيس عبر القضاء إلى القبض على رموز المعارضة، بنسقٍ يكاد يكون يوميّاً، ويشمل عادة وجوهاً من الحركات السياسية المناهضة لسعيّد، والإعلاميين على غرار محمد بو غلّاب، وسنية الدهماني، التي صدر في حقّها حكم يقضي بسجنها سنة. ولا يزال عشرات المدوّنين والإعلاميين في حالة تتبّع قضائي أو تتبع أمني.
أقرّت "النهضة" في بيان صدر منذ يومَين مبدأ المشاركة بالانتخابات، غير أنّها تركت لنفسها حرّية تقدير الموقف في ضوء التطوّرات اللاحقة
أخيراً، الأمر الثالث شروط المنافسة النزيهة في ظلّ حرمان العديد ممّن أعلنوا ترشّحهم، مع حقّهم في الترشّح، فهم إمّا في السجن، أو حرموا في ضوء التنقيحات التي عمدت إليها الهيئة المُستقلّة للانتخابات، كما أشرنا أعلاه. أنهكت تلك التعديلات المُترشّحين بشروط تعجيزية على غرار التزكيات المستوجبة من الغرفتَين التشريعيتَين، وهي التي قاطعت المعارضة انتخاباتهما السابقة. هذه التشكيلات تدين بالولاء المطلق لصاحب الفضل عليها، أي الرئيس سعيّد ذاته، ومن المستحيل تقريباً أن تمنح تزكيتها لمنافسي سعيّد، ممّا يُجبر هؤلاء الطامحين على جمع ما يناهز عشرة آلاف تزكية، تتوزّع بين الدوائر الانتخابية، وهي عملية مُضنية.
في ظلّ هذه المطبّات الثلاثة، التي تُفسِد المسار الانتخابي المُقبل، فإنّ موقفَين لا يزالان يتردّدان؛ إما الرهان على الانتخابات، واعتبارها فرصة واردة رغم العراقيل كلّها، التي وضعها النظام، ورغم شراسة المناخ الانتخابي، خصوصاً في غمرة المنافسة، على أمل طرد الانقلاب من خلال صناديق الاقتراع؛ أو الموقف الثاني الذي عبّر عنه بشكل حاسم زعيم حزب العمال حمّة الهمامي، الداعي إلى مقاطعة الانتخابات، واعتبارها بيعة أخرى للرئيس سعيّد. أمّا حركة النهضة، التي هيمنت على عشرية الانتقال الديمقراطي قبل الانقلاب عليها، فإنّها أقرّت في بيان صدر منذ يومَين مبدأ المشاركة، غير أنّها تركت لنفسها حرّية تقدير الموقف في ضوء التطوّرات اللاحقة.