يمشي الرجل وكأنّه بلا ألم
تراه دائماً متحصّناً بقوة ما متخيَّلةٍ، تراه هكذا، أو كأنّه خلق هكذا، أو لعلّه يصر أن يكون هكذا، علّها قوة ورثها عنوةً ولا يريد أن يفرّط فيها أبداً، كي يكون هكذا، وهو الضعيف والرقيق والمجروح وصاحب العيال والمسؤولية والمُحبّ والمحارب، والمسافر إلى البلاد وراء رزقه، وحامي الديار والعرض.
هكذا يعيش الرجل في ظلّ قوته المتخيَّلة، يعيش بذلك الأرث ويظلّ ممسكاً به، ومدارياً حتى عن نفسه دموعَه، أحياناً يحادث الرجل نفسه بالضعف سرّاً، حينما يكبر في العمر ويحتاج إلى عصاً أو كرسيٍّ متحرّك أو طبيب في آخر الليل، أو ابنة تسأل عنه بعدما انشغلت بعيالها وحالها والدرجة الوظيفية لها ومدارس أولادها، هنا يتذكّر الرجل أن سقف قوته قد بدأ يضعف، وأن مواريثه من القوة المتخيَّلة لم تعد تجدي أمام الأحداث والأهوال، وخاصّة لو مات له ابن أو أكثر، أو رحلت عنه رفيقته، أو انكسر في تجارة، أو قلّت الصحبة وندرت، أو صارت حكايةً قديمةً ملقاةً تحت عقب الباب، ولم يعد له سوى المقهى أو التليفون، أو ابن خالة في المرج، أو سمنود، أو قيراطين فيهما النجيل وقليل من الزرع، أو حفيد في طرف البلد وقد جاء لأخذ كيزان الذرة من فوق سطحةٍ للحمام، فيتذكّر أنه كان خفيراً لأبعدية واسعة، وكانت "كارة الغنم" هادئةً بالقرب من بندقيته "أمّ روحين"، وهو كان يصبّ الشاي في الليل، فيخاف اللصوص من كحّته، ولاحظ فجأة أن أغلب أسنانه غير موجودة، وأن حفيده قد دخل في موجة من الضحك حينما حاول أن يبلّل رغيف العيش في الصحن بجوار طقم أسنانه، فزغد الحفيد بالعصا، فشال الحفيد كيزان الذرة ومشى.
انشغل الرجل ببعض حمام يحطّ أعلى النخيل، ولا يعرف لماذا هبطت دموعه. الرجل يعرف جيّداً أن ماكينة العالم ومصائبه وبخل الزمان أكبر كثيراً من قوة تحمله، ولكنّه يتقوّى كي لا تزيحه الريح، ولذا تراه يكتم أوجاعه، عكس المرأة التي تتباهى بها أو تغنّي لها في المصائب أو تتضاحك بها أو "تعدّد" عليها كعكاز في جنازة أيّ ميّت، ثمّ تعود للضحك، حتى وهي تهشّ على دجاجاتها، وأحياناً تبتسم وهي تدفن في آخر كلّ يوم بقيّة أحزانها، كي تمشي إلى السوق، بالكحل أو بغير كحل، وتسأل عن أفراح فلان أو علّان، ومتى تحصد الأقماح أو الشعير، عكس الرجل الذي يحمل حزنه على كتفيه مع شاله وكوفيّته وعقاله وطاقيته وعلبه سجائره ومحفظته، كي يزداد رجولةً وصبراً، ويكمل بناء بيته أو خدمته بالجيش أو يحمل جوعه وهو يحفر القنوات أو وهو يغني حينما يكتب لزوجته الخطابات من جوار تراب السدّ العالي أو فلسطين أو وهو يعبر الأسلاك إلى بني غازي، أو وهو يحصل على جواز السفر ويبتسم لصورته الصابرة وهو يجني بلح النخيل في قرى العراق، أو وهو يبيع القطن ويشتري لابنه اللحافين مع الكردان والحلق والصندوق لعروسه.
الرجل قادر على الكتمان مثل مِرجل يغلي، وخاصّة وهو يمتلك العافية ويطاوعه البدن. حزن الرجل لماذا دائماً يكون دفيناً، رغم أنه يلعب العصا راقصاً ومتمايلاً في الصعيد، وهو مخزن الحزن الأصيل في مصر، ويعزف على الرباب، وينفخ في الناي، ويصنع المواويل الحزينة في البناء، ويمشي وراء ابن عروس من النيل للبادية، ويذهب حادياً للإبل في مواسم الحجّ للحجاز ومكّة والمدينة، وبجمله يذهب وراء الأعراس، ومع غزوات الملوك والخلفاء وقطع الأحجار وجرّها لبناء المسلّات والأهرامات في شمال البلاد وجنوبها، ويزيّن القلعة بالقباب في القاهرة للأمراء والملوك، ويعتزل أيضاً في الأديرة ومساجد الصوفية ويغزل الصوف على مغزله وراء الغنم كي يجمع السير بأحزانها، خاصّة سيرة بني هلال، المليئة لآخرها بالأحزان والموتى والقتلى، وليلاً يذهب "للسحجة"، كي يدقّ الكفوف بهجةً بالغناء، وبرقص صاحبة الرقصة، التي تهبط ما بين الصفوف بكيفها ومزاجها، صارخاً من الشغف والمتعة: "صاحب الكيف ينزل وحده"، فلماذا نراه حينما يتهدّل البدن يحمل أحزانه ويخفيها تحت طيّات الكوفيّة بجوار قفص كتاكيت في شمس الشتاء، أو بجوار ساقية مهجورة أو بالقرب من رياح جفّت مياهها فجأة، وأحياناً يدخله "اللطف"، فيمشي وحيداً فوق قضبان السكّة الحديد، وينسى تلك الأفراح كلّها، التي عاشها.