الكتابة وتلك الأشياء التي تُطاردنا

02 يناير 2025

(بول كلي)

+ الخط -

كيف تطاردنا تلك الأشياء الجميلة، أو كيف نطاردها، مثل بهجة خيطٍ من عرقٍ تحت تعريشة بوصٍ في خصّ في أول الغيط، وخيط العرق يتلألأ كالنورعلى رقبة غنّامي يحلم بولادة النعجة ليلاً بعد ما حشّ لنعاجه القسباء من حوافّ الغيطان، والنعاج بأرجلها تعفر الغبار عليه وهو في الخصّ، وزوجته في السوق تبيع شعر الغنم وتحبك منديلاً من الساتان على الرقبة؟ كيف تكتب خيانة الأشياء، هل نحن قساةٌ إلى هذا الحدّ؟
الآن، كبر الغنّامي بعد ما صار جدّاً لأحفاد كبار، وأراه شتاءً أمام ركية نار حطب العنب اليابس، الذي تزغرد فيها ألسنة النار أمام باب بيته بعدما لم يعُد له من نعاج، وصاحبة المنديل الساتان التي كانت تلعب عيونها في السوق لا تفارق ركية النار، والأنف الجميل المدبّب نفسه، وفي نهايته الخزام الفضة، كثرت مياه العينين فقط، أو علّها بسبب دخان ركية نار حطب العنب.
كيف لك بذلك الإحساس الذي يمسك (أو تمسك) ببعض منه مجازاً، فتصير وكأنك في نخاع الأشياء، أشياء تربكها، أو ترتبك بك، وأشياء تأتيك هديةً رغم أنك ما حلمت يوماً أن تأتيك، ولكنّها جاءت؛ إذاً فمن تكون تلك الجميلة التي كانت تركب الهودج محنّاةً في قصّتك "الهودج"، هل هي أمّك، أبي لم يكن يحترف الغناء كذلك الجمّال الذي كان يغني أمام الهودج، إنّما كان يغنّي فقط حينما يميل حجرُه من ثقل لوز القطن في الجني حينما يزداد الحمل على قماش حجره من سرابتين من القطن، حينئذ كان يعرف أن الحسبة عمرانة، فيغني جريحاً من دون جرح: "أنا كلّ ما أقول تتعدّل، يجيني الورق مسجّل، تبه صبية وتتهجّل، ياعيني"، بعدها كان يضحك للشمس قائلاً: "اعمل لنا كباية الشاي يا خيري"، فيغمز خيري، أخي الذي ليس من أمي ويقول لي أنا الصبي آن ذاك: "صاحبك رايق وبانت عليه حلاوة الحسبة".
كيف زحف خيط العرق على رقبة الغنّامي، وما شكل الكحل في عيني تلك المرأة التي كانت في الهودج، ويغني من أمامها الجمّال، وما شكل الحنّاء في القدم المشتاقة، وما لون نسيج قلب أبي وهو يغنّي، وكيف لكلّ تلك الأشياء المبعثرة الصغيرة أن تصنع عالمي الذي ما زال يأكل في ذاكرتي بمناقير عصافيره، تلك المناقير التي تأكل في روحي كل آن، هي نفسها بلا شك التي تخرج بعد سنين من تلك البطون الصغيرة "لسنون" الأقلام، أقلامنا، فوق تلك الأوراق، ونسميها بعد ذلك بالكتابة.
الكتابة ليست الأحبار، وقد أخذت شكل الكلمات كما تعودنا، الكتابة هي تلك الأشياء البعيدة التي عذّبت الروح طويلاً، والأقلام هي تلك النهايات التي تتم في "سنونها" نهايات التعب، وهناك بالطبع مسافة شاسعة ما بين تعب الروح بالأشياء وتعب القدم أو الجيب أو القلب، وتعب أن ترى قمراً تتغزّل فيه، وتعب أن تداعب خدّ وردة أو يمامة، وتعب القولون، وتعب عدم التكيّف مع الواقع أو شروط الهجرة، وتعب التورّط في أسئلة أكبر من مسافة خطواتك، وتعب أن تكون أمامك أوراق بيضاء، ولا تكتب، وأنت لديك المؤلفات تؤلم الأرفف هناك.
تعال، وجرّدني من كل هذه الأتعاب، وارمني في هوس الأشياء الجميلة، ولا تعطني شيئاً سوى جوعي وانتظاري، فكيف بالله زحف خيط العرق على رقبة الغنّامي، وكيف خفق قلبي ووالدي يغنّي ما بين سرابتي قطن ونحن نجني القطن، وكيف اهتزّ لوز القطن مع غناء أبي، وكيف سمعته العصافير إن كانت هناك عصافير تحوّم فوق الشجر، ولمن كان يرقّ قلب المرأة التي كانت في الهودج بالحنّاء في قصتي "الهودج"؟
أحس أنها كانت تحبنّي في الحلم أو في الواقع أو ما بين الاثنين، وكنتُ أنا ساعتها الأخرس وهي تشبه العمياء، أنا الولد الذي كان يحاول جاهداً أن يلحق ببدايات ذلك الفرح الذاهب إلى بلاد العرب، غرب، ويحاول أن يرى شيئاً طالعاً بجمال من الهودج، كقدم محنّاة، أو حتى يسمع شيئاً ما حلواً خارجاً بنغمه من خلال الهودج فيرتاح القلبُ على الجسر، هل كان الهودج يراني ويتعطّف بحالي، أنا الصغير الذي يلهث وراء أفراح العرب، كلّ يوم يزداد الشكّ عندي في هذا الفرح، فرحي، وفرحي حتى بالكتابة، وكلّ يوم يزداد أيضاً القرب، بتلك الكتابة، وبتلك الأشياء العالقة بها من سنوات وتطاردنا حتى في أحلامنا.