وطنية 30 يونيو
واقعة شاهد الزور في قضية مقتل الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة، تصلح تجسيداً لمفهوم "حب الوطن" الجديد كلياً، المصنوع في ورش الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، وهو نوع من الحب غير الأخلاقي، الدنيء الذي يبيح الكذب والظلم والقتل والخطف والقنص، ما دام ذلك كله "من أجل مصلحة البلد".
مهندس مدني مصري توجه إلى النيابة بشهادة زور بشأن الباحث الإيطالي المقتول في مصر، وظهر في فضائيةٍ تابعة لأحد رجال أعمال الانقلاب، مطلقاً أكاذيب على الهواء مباشرة، فضحتها تحقيقات النيابة التي استيقنت من أنه يكذب ويزوّر في شهادته، لتكون المفاجأة الأولى أنه كذب وزوّر من باب الوطنية، أو كما قال "أحببت أن أساعد بلدي".
المفاجأة الأكبر، هنا، أن النيابة قرّرت صرف شاهد الزور من غير حساب أو عقاب أو مساءلة.
يعرف أصغر دارس للحقوق أنه، حسب قانون العقوبات المصري، فإن عقوبة شهادة الزور قد تصل إلى إعدام صاحبها، في حالة ما إذا ترتّب على هذه الشهادة الحكم على المتهم المشهود عليه بعقوبة الإعدام، وتم تنفيذ هذه العقوبة عليه، فعلاً، فإنه يحكم على المتسبب في هذه الحالة، وهو شاهد الزور بالعقوبة نفسها، وهي الإعدام. أما في غير هذه الحالة، فإن العقوبة تتراوح بين السجن المؤقت من 3 إلى 15 سنة، والحبس حسب نوع الجريمة أو الدعوى التي شهد فيها.
هذا هو القانون وحكمه، لكنك في "دولة الثلاثين من يونيو" من العبث أن تسأل عن قانون أو عرف أو قيمة مجتمعية وإنسانية محترمة، فقد سنت الثورة المضادة لنفسها قانوناً جديداً تحت حماية ورعاية جناحي الدولة العميقة، الجيش والشرطة، قلت عنه قبل انقلاب السيسي بشهرين إنه قانون"استحلال الكذب وشرعنة التزييف"، حيث طبق ذلك القانون، أول ما طبق، على ثورة يناير "المؤامرة" وموقعة الجمل "الجريمة التي نفذتها حماس" والدستور الجديد الذي قال عنه رئيس جامعة، أمام شهود، إنه أعظم وثيقة دستورية في تاريخ مصر الحديث، ثم تحوّل بقدرة قادر، فيما بعد، إلى دستور ظلامي رجعي، يهدف إلى أخونة الدولة، ويزوّج الطفلة في عمر التاسعة، ويمجّد الهولوكوست، كما استخدم "قانون استحلال الكذب" أيضاً في ما تعلق ببيع قناة السويس والأهرامات الثلاثة ونهر النيل لقطر، وسيناء للفلسطينيين.
في ذلك المهرجان الوطني للكذب، كان الأسف مضاعفاً على رموزٍ كنا نحترمها، قرّرت المشاركة فى رقصة انتحار مهني وأخلاقي، جعلتها تعتنق عقيدةً فاسدةً جديدةً، تقوم على إباحة الكذب واستحلال التزييف، باعتبارهما سلاحين فى حربٍ لإسقاط النظام، وإبادة فصيل سياسي واجتثاثه من التربة المصرية.
أسوأ من ذلك أن فريقاً من المحسوبين على الإعلام كان يعمل وفق نظريةٍ ساقطةٍ مضمونها أنه في الحرب كل شيء مباح وحلال ومشروع. وعليه، فإن إنتاج الأكاذيب واستخدامها والبناء عليها عمل لا غضاضة فيه، ما دام سيسّهل عملية إزاحة الرئيس المنتخب.
لم تطبق عقيدة الاستحلال على الكذب فقط، بل شملت الحرق والقتل والتحريض عليه، فأصيبت الضمائر بالعطب، وهي ترى "الإخوان" يُحرقون أحياء، في أحداث المقطم، والمنقبات والملتحون يتم استيقاف الحافلات العامة للبحث عنهم وإنزالهم، كما كانت تفعل مليشيات عكاشة أمام بوابة وزارة الدفاع، لتتطوّر الأمور فيما بعد الانقلاب إلى مجازر ومحارق جماعية، عند الحرس الجمهوري والنصب التذكاري وميداني رابعة والنهضة وغيرها، تأسيساً على أكاذيب وطنية، تحمل ختم الدولة الرسمي، تشيطن المتظاهرين والمعتصمين، وتستدعي فتاوى الدعاة القتلة، لتحرض الجنود على قتلهم، حباً في الوطن، أو تطبيقا لفلسفة "أحب أن أساعد بلدي"، كما تجلت في واقعة شاهد الزور في قضية الشاب الإيطالي.
يتبع عبد الفتاح السيسي المنطق نفسه، في أقواله وأفعاله، إذ يتحرّى الكذب في وعوده للمستقبل، وهو يعلم أنها أوهام، وكلما سقط منها وهم، وتبخّر وعد، لا يقول إلا "أحب أن أساعد بلدي"، والشيء نفسه في الأفعال والتصرفات، يبيح القتل والتعذيب والإقصاء، ويحالف العدو، ويعادي الأخ والشقيق، والحجة "أحببت مساعدة بلدي".
قلت، سابقاً، إنه وصل إلى مرحلة أنه صار يردّد في أعماقه "أنا البلد والبلد أنا"، ومن خلفه، ومن حوله، جيوش من الكذبة، مسكونون بأنهم "نحن السيسي والسيسي نحن". ومن ثم لا قانون إلا قانونهم الخاص "قانون استحلال الكذب"، ومن يعارضهم مطرود من جنة الوطنية "وطنية 30 يونيو".