هل يكون الفشل السوري منطلقاً للنجاح؟
مع تبدّل المواقف الإقليمية فيما يخص الصراع في سورية، وبوجه خاص، الموقف التركي الذي كان، لقطاع واسع من المعارضين السوريين، سنداً أساسياً في وجه نظام الأسد، والموقف الإيراني المنشغل في أزمته الخاصة بمواجهة الشعب الإيراني، إضافة إلى الموقف الروسي الغارق في حربه المتعثرة في أوكرانيا. وهما، لقطاع آخر من السوريين، السند الأساسي في وجه "المؤامرة على الدولة السورية". نقول مع هذا التبدّل، يدرك السوريون، أكثر من أي وقت، أنهم السند الأول لأنفسهم، الأمر الذي يدشّن بداية وعي سوري جديد مبنيٍّ على خبرة سورية مشتركة.
طوال العقد المرير الماضي، أنجز السوريون اصطفافاتهم وانحيازاتهم ووصلت الحال في سورية، منذ سنوات، إلى الشلل (stalemate). كل جماعة، في كل صفٍّ وجدت نفسها فيه، أو ارتضت لنفسها أن تكون فيه، بما في ذلك من يعتبرون أنفسهم خارج الصفوف، أو من لم يجدوا لأنفسهم صفّاً مناسباً، كل جماعة من هؤلاء وصلت إلى طريق مسدود. ليس فقط بمعنى العجز المادي عن حسم الصراع لصالحها، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، بمعنى قصور المقترح السياسي لكل منها عن أن يكون إطارا مقبولاً ومناسباً لعموم السوريين. فشلت فكرة "الأمة الديموقراطية"، لأنها تنطوي على غلبة كردية (بمعنى غلبة الهمّ الكردي وغلبة السيطرة الكردية) غير خافيةٍ في تجربة الإدارة الذاتية. وفشلت فكرة "القومية العربية العلمانية"، لأنها تكشفت عن سيطرة طغمةٍ تغذّي وعياً تقسيمياً بين القوميات والإثنيات والأديان والمذاهب، وتستند إليه على الضدّ من العروبة ومن الوطنية السورية، وفشلت فكرة "الإسلام السياسي" بكامل طيفها، لأنها غير جامعة، وتقسيمية في الأصل، عدا عما تنطوي عليه من مساند ديكتاتورية.
إذا تكلّمنا من المنظور الوطني السوري، يمكن أن نقول إن كل حزب، بالمعنى الواسع للكلمة، أنجز فشله الخاص. ويلاحظ جميع السوريين أن فشل جماعةٍ لم يقابله نجاح الجماعة الأخرى، وأن من يمكنهم الكلام عن "نجاح" هم فقط متسلطون ولصوص وتجار حربٍ وشبّيحة كل الجماعات. وعلى قاعدة هذا الفشل المشترك والعام، يتكوّن ويستقر وعي بأن الجماعات السورية تفشل معاً أو تنجح معاً، وأن طريق الفشل المتبادل هو انغلاق الجماعات على بعضها بعضا، وإصرار كل جماعة على صوابية مقترحها مقابل ضلال الآخرين. أو بكلام آخر، الفشل السوري اليوم هو انعكاسٌ لفشل الجماعات التي يجمعها، على اختلافها، إصرار كل جماعة على النظر إلى سورية من منظورها الخاص، أي منظور سيطرتها. صراع السيطرة هو صراع الفشل، كما للجماعات الساعية إلى السيطرة كذلك للمجتمع السياسي السوري ككل. أحقية الجميع بالوجود والنشاط على أرضية الوطنية السورية هو ما يشكّل نواة الوعي العام السوري الذي يتشكّل لدى عموم السوريين.
يصعب أن نأمل من الجهات المسيطرة في سورية أن تخرج من مسار سيطرتها الخاصة، لأنها باتت مأسورةً لهذا المسار
لكن، هل يمكن للجماعات السورية التي تمتلك وسائل السيطرة والتأثير في مناطقها أن تساند مثل هذا الوعي؟ أي هل يمكن للجماعات التي وصلت إلى طريق "السيطرة" المسدود أن تبحث عن طريقٍ آخر؟ بوضوح أكبر، هل يمكن للقوى التي أنتجت، أو كانت نتيجة، الفشل السوري العام، أن تكون هي نفسها روافع لطريق نجاح وطني سوري؟
من بين الجماعات التي تسيطر في سورية، لا ينشط في البحث عن قاسم مشترك سوى مجلس سوريا الديموقراطية (مسد)، وهو التشكيل السياسي الذي يغطّي تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق الفرات. ولكن مجهود هذا التشكيل السياسي يبقى مثقلاً بعبء وقوعه تحت سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي بحكم وزنه العسكري. على أن قوة "مسد" مستمدّة أساساً من وجود هذا الحزب فيه. هكذا يمكن القول إن نقطة القوة في "مسد" هي نفسها نقطة الضعف في مسعاها السوري العام. إلى ذلك، يمكن أن نضيف أن من طبيعة الصراع العسكري أن يعزّز انغلاق الجماعات المتصارعة، وأن يخنق أي بذرة ديموقراطية فيه.
على ما سبق، يصعب أن نأمل من الجهات المسيطرة في سورية أن تخرج من مسار سيطرتها الخاصة، لأنها باتت مأسورةً لهذا المسار. لا تنتظر من أحدٍ أن يقطع الغصن الذي يستند إليه. الوعي السوري الجديد لا يمكن أن يكون، والحال هذا، سوى وعيٍ معارضٍ لهذه السيطرات مجتمعة. مع إدراكنا أن التحدّي الكبير هو الترجمة العملية لهذا الوعي إلى قوة مادية، نظراً إلى تعدّد السيطرة السياسية وتباين المجالات السياسية في سورية. وليس المقصود هنا بجدّة الوعي أنه ابتكار خاص في مجال الحياة السياسية، بل أن هذا الوعي ناجم عن خبرةٍ سوريةٍ خاصةٍ ومريرة، عاشها المحكومون بلحمهم ودمهم، وليس مجرّد كلام يُقرأ وخطابات تُسمع. الجدّة هنا تعني ولادة الفكرة من التجربة المعيشة، ما يعطي للفكرة حقها وقيمتها ويجعل السوريين يدركون الأهمية العملية للفكرة التي باتت اليوم مجسّدة أمامهم وتعرض نفسها للعين المجردة.
دوافع السيطرة تستجلب العنف، والعنف يستدعي، بطبيعته نفسها، علاقات السيطرة والخضوع القسري
عنصران يدخلان بقوة إلى مجال وعي السوريين، بعد هذا الجحيم الذي عاشوه ويعيشونه إلى اليوم، وببؤس لا يني يتزايد. الأول ارتفاع قيمة المساواة والمشاركة على حساب دوافع السيطرة والاستئثار. الثاني إدراك لا جدوى العنف في مسعى التطلع التحرّري، وأن العنف لا يحرّر من الاستبداد بل ينتج الاستبداد ويفاقمه بالأحرى. ومن المهم، بوجه خاص، إدراك الصلة العميقة بين هذين العنصرين، أي أن دوافع السيطرة تستجلب العنف، وأن العنف يستدعي، بطبيعته نفسها، علاقات السيطرة والخضوع القسري. هكذا، يبدو أن نبذ التطلع التحرّري يمشي قدماً بقدم مع نبذ العنف.
في الختام، يمكن القول إنه، تحت قشرة الانفعالات والحساسيات المتبادلة التي عزّزتها الصراعات العنيفة خلال العقد المنصرم، يتوفر اليوم لدى السوريين في كل المناطق، ومن كل المشارب المذهبية أو القومية، ما يهيئ لولادة وعي جديد مشترك، يمكن أن يشكّل منطلقاً لنجاح سوري بالغ الأهمية، إذا توفرت لدى الفاعلين السياسيين الحساسية والإرادة الكافية لاستثماره. نعلم أنها مهمّة غير سهلة، ليس فقط بسبب ظروف التقطّع الجغرافي والسياسي الذي تكرّس في البلد، بل أيضاً بسبب وجود قوى اجتماعية وسياسية وازنة وفاعلة لا يناسبها تبلور مثل هذا الوعي، وستعمل على تشتيته وتهميشه. وفي التاريخ ما يقول: ليس مستبعداً أن يكون الفشل العام منطلقاً لنجاح عام.