عن مظاهرات السوريين العلويين
انتشرت بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وفرار المجرم (ليل 7/8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، أخبار وفيديوهات، مسرحها مناطق سورية يعيش فيها علويون، تعرِض انتهاكات مختلفة تنم عن رغبة بعضهم في الانتقام، ليس من مرتكبي الجرائم بحقّ السوريين فقط، بل أيضاً من بيئتهم الاجتماعية، وهو ما يمكن ردّه إلى سيادة وعي تعبوي خلال السنوات الماضية يختزل نظام الأسد في أنه "نظام علوي". يظهر ذلك بأشكال عديدة، من الاستضعاف والسخرية ذات البعد الطائفي، إلى الإذلال من موقع من ينظر إلى الآخرين أنهم مهزومون، ويصل بعضها إلى حدّ القتل على الهُويَّة المذهبية بدم بارد.
وصفت هذه الأفعال بأنها فردية لا تعكس سياسة القيادة العامّة الجديدة، ولا إرادتها، ونعتقد أن هذا صحيح. معروفٌ، في ظلّ النظام البائد أن "الأعمال الفردية" كثيراً ما استُخدِمت ستاراً للتهرّب من المسؤولية، ويعرف السوريون أن أبطال هذه الأعمال لا يتعرّضون للمساءلة، بل على العكس، يعلو رصيدهم لدى القيادة، ولكنّ الظرف العامّ الذي تجد نفسها فيه السلطة الجديدة في سورية، يجعل من مصلحتها الحيوية أن لا تحدُث هذه الانتهاكات، ولا سيّما أن التنظيم الأساسي (هيئة تحرير الشام) في هذه السلطة يحتاج إلى مياه كثيرة نظيفة لغسل ما استقرّ عنه في وعي السوريين، وفي سجلّات الدول الغربية، التي لا تزال تصنّفه في قائمة الإرهاب.
كثيراً ما استخدمت "الأعمال الفردية" في ظل النظام البائد ستاراً للتهرّب من المسؤولية، ويعرف السوريون أن أبطال هذه الأعمال لا يتعرّضون للمساءلة
شهدنا في 25 ديسمبر/ كانون الأول الجاري ردّ فعل واضحاً وواسعاً من العلويين، وتجلّى في مظاهرات في عدّة مدن، احتجاجاً على حرق مقام ديني، رفعوا فيها هتافات طائفية للمرّة الأولى في تاريخ سورية. لم تكن هتافاتٍ ضدّ الطوائف الأخرى، بل هتافات تؤكّد هُويَّتهم الطائفية الخاصّة. وعلى اعتبار أنه لا تقليد لديهم في ذلك، فقد قلّدوا طريقة الشيعة في الهتاف، مثل "لبيك يا ..." و"علوية" على غرار هتاف "شيعة"، مع الفارق المهمّ في السياق والدلالة. لم تُواجَه المظاهرات بالعنف في اللاذقية وطرطوس. فقد، نقلت الأخبار أنه سقط قتيل وبضعة جرحى في حمص بعدما أطلقت قوات الأمن النار لتفريق المتظاهرين. ثمّ صدر قرار بمنع التجمّعات والمظاهرات والوقفات التضامنية، حتى عودة استتباب الأمن في البلاد، وأُلغي بعد ذلك. المظاهرات التي أتينا على ذكرها ليست دينية، وإن اتخذت طابعاً دينياً، فقد سبق أن تعرّضت مقامات علوية للإزالة، في سياق مختلف، من دون أن يسبّب ذلك احتجاجات تذكر. خروج العلويين بهذا الشكل يحرّكه نزعة لتأكيد الذات الجماعية أمام ما يشعرون أنه محاولة لوصمهم وإغراقهم بعقدة الذنب. كما يحرّكه خوف مَرَضي، يتجلّى في نوع من الهروب إلى الأمام، فالاحتجاج على حرق مقام لا يكاد يعرفه العلويون أصلاً، يضمر احتجاجاً على مجمل "الأعمال الفردية" السابقة، وهو نوع من رسالة مفادها، إننا متضامنون وسندافع عن أنفسنا.
قد يبدو هذا القول غريباً لمن لا يستطيع إدراك حقيقة خوف العلويين. يمكن للمرء أن يجد هذا الخوف غير مبرّر وغير مفهوم، ويمكنه أن يسخر منه حتى، ولكن هذا، في كلّ حال، لا يفيد في شيء، وربّما يزيد من المشكلة. في المقابل، يمكن لجهات ذات مصلحة (في هذه الحالة نقصد أساساً إيران بما لها من مرتكزات محلّية، وكان في تصريحات مسؤوليها ما يشير إلى علاقة لها في تخريب الاستقرار الذي تلا سقوط النظام) أن تؤجّج المخاوف، وأن تدفع باتجاهات معينة للحركة، ولكن هذا يبقى غير ممكن ما لم يكن لدى الناس الاستعداد لذلك. يوجد فارق حاسم بين الاحتجاجات التي قام بها العلويون، والعمليات العنيفة التي أقدم عليها علويون من مستفيدي النظام البائد، مثل حادثة إطلاق النار على دورية أمنية في المزيرعة من شبيحة للنظام السابق، وقتل أربعة من عناصرها في 15 ديسمبر، أو استهداف دورية لقوات الأمن العام، في يوم الاحتجاجات نفسه، وهي في طريقها إلى اعتقال ضابط من إحدى قرى طرطوس، يقال إنه مسؤول عن إعدام آلاف السجناء في سجن صيدنايا، العملية التي قتل فيها 14 فرداً من عناصر الأمن، بحسب بيان وزارة الداخلية السورية. العمليتان تهدفان إلى حماية مجرمي النظام، وتستخدمان العنف المسلّح، في حين أن المظاهرات سلمية الطابع، ولا تهدف إلى حماية مجرمين مطلوبين. العمليتان من ترتيب رجال النظام السابق الرسميين وغير الرسميين، الذين يدافعون عن أنفسهم بالعنف وبمحاولة خلق البلابل، ولكنّنا لا نعتقد أن أحداً من رجال النظام السابق ما زال يمتلك من القوة المعنوية ما يجعله قادراً على إخراج عشرة أشخاص. اعتبار المظاهرات صناعة "الفلول" هو استسهال بعيد من الواقع.
يراهن مجرمو النظام السابق على تأجيج صراع طائفي يحتمون به، ويتحوّلون زعماء في طائفة بعد أن كانوا زعماء في دولة
ما يراهن عليه مجرمو النظام السابق هو تأجيج صراع طائفي، كي يحتموا به وتختلط فيه الأوراق، وعندئذ لا ينجون من العقاب فقط، بل يطمحون إلى أن يتحولوا زعماء في طائفة هذه المرّة، بعد أن كانوا زعماء في دولة. فعلى هذا، إن كلّ سلوك ذي بعد طائفي من أيّ جانب كان، لا يخدم في النهاية سوى هؤلاء المجرمين... يفتح سلوك السلطة الجديدة، حتى اللحظة، باباً للتفاؤل، ففيه قدر مهم من المسؤولية الوطنية والابتعاد عن الاستفزاز الطائفي مع السعي إلى تطمين الأهالي. كما أن للمبادرات الأهلية التطمينية أهمية في هذه المرحلة الانتقالية، إذ يكون للنسيج الأهلي دور أكثر أهمية في ملء نقص الدولة، وطمأنة الناس، وتخفيف الصدامات الممكنة.
من المفيد، في السياق السوري الراهن، التنبه إلى أمرَين متكاملَين: الأول أن ما يبدر من العلويين من ردّات فعل شعبية احتجاجية، قد تشكّل (وهذا يعتمد على التطوّر اللاحق للأحداث) بدايةً مشؤومةً لتحوّلهم كياناً له قدر من الوعي الذاتي الجماعي، ما يمهّد لدخولهم (مع غيرهم) في نموذج دولة طائفية التكوين على النموذج العراقي أو اللبناني. والثاني أن ما يدفع أكثر باتجاه هذا التحوّل أنه ينسجم مع طبيعة تكوين السلطة السورية الحالية، التي يقوم تنظيمها الأساس على كيانية طائفية، ويزيد في المخاوف ما قاله زعيمها في أحد لقاءاته عن النيّة في تنظيم علاقة المكوّنات السورية المختلفة بالدولة، ما يشي برغبة في التعامل مع الطوائف المختلفة بوصفها كيانات ذات بعد سياسي. في رأينا أن السير في هذا الطريق لا ينتج إلا دولة ذات فشل مستدام.