هل يحدث "السيناريو الأسوأ" في الانتخابات الفرنسية؟

28 يونيو 2024

ناشطات فرنسيات يتظاهرن في تولوز ضدّ حزب التجمّع الوطني (Getty 23/6/ 2024)

+ الخط -

يتوجّه الناخبون الفرنسيون، الأحد المقبل، (30 يونيو/ حزيران الحالي)، إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المُبكّرة، لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية الجدد، بعد أن سارع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حلّها، على خلفية نتائج الانتخابات الأوروبية التي جرت من 6 إلى 9 يونيو الحالي، وحقّق فيها حزب التجمّع الوطني، اليميني المُتطرّف، انتصاراً كبيراً، فيما تلقّى حزب النهضة، الذي يتزعّمه ماكرون، هزيمة ساحقة.
يحقّ لنحو 49 مليون ناخب فرنسي التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات المُبكّرة، لاختيار 577 نائباً في الجمعية الوطنية لخمس سنوات، فيما بلغ إجمالي عدد المُترشّحين 4010 مرشحين، حسب وزارة الداخلية الفرنسية، بينهم 546 عن الجبهة الشعبية الجديدة التي تضمّ تحالف أحزاب اليسار الرئيسة في فرنسا، و445 مُرشّحاً للتحالف الرئاسي، الذي يقوده حزب النهضة بزعامة ماكرون، و499 مُرشّحاً لحزب التجمّع الوطني اليميني المُتطرّف. ويشترط قانون الانتخاب الفرنسي على المُرشّح، كي يصبح نائباً من الجولة الأولى، الحصول على الأغلبية المطلقة للأصوات، وعلى عدد مساوٍ لربع عدد الناخبين المسجّلين في القوائم الانتخابية. ولخوض الجولة الثانية، على المُرشّح أن يكون حاصلاً على أصواتٍ تصل نسبتها إلى 12.5%، في أقلّ تقدير، من عدد الناخبين المسجّلين. وفي الجولة الثانية، تكفي الأغلبية النسبية للفوز، وفي حال تعادل المُرشّحين، يفوز المُرشّح الأكبر سناً.

تشي الأجواء السياسية في فرنسا بحالة من الانقسامين السياسي والاجتماعي ولعلّ الانتخابات التشريعية المبكرة تزيد من حدّة الاستقطاب الحاصل

يجمع المراقبون على أنّ لهذه الانتخابات أهمّيتها الخاصّة، وتعدّ الأخطر في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1958، بالنظر إلى أنّها تضع فرنسا أمام أبواب مرحلة جديدة، وغير مسبوقة، قد يشكّل فيها اليمين المُتطرّف أول حكومة له في حال فوز حزب التجمّع الوطني وحلفائه في الانتخابات، وهو ما يعني حصول أول تعايش بين رئيسٍ ينتمي إلى يمين الوسط، ورئيس حكومة ينتمي إلى اليمين المُتطرّف. وسبق أن عرفت فرنسا ثلاث فترات من التعايش، أولها بين 1997 و2002، حين كان الاشتراكي ليونيل جوسبان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس جاك شيراك، الذي ينتمي إلى يمين الوسط. والثانية بين 1993 و1995، بين رئيس وزراء من يمين الوسط، هو إدوارد بالادور في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، خلال فترة ولايته الثانية. والثالثة بين 1986 و1988، حين كان شيراك رئيساً للوزراء في عهد ميتران. وإذا أفضت هذه الانتخابات إلى تعايش جديد فستكون له تبعات كثيرة، بسبب تضارب الهوية السياسية لرأسي السلطة التنفيذية، ما يلقي بظلال قاتمة على ما تبقّى من فترة رئاسة ماكرون، وعلى قدرته في تنفيذ سياسته وبرنامجه ووعوده الانتخابية.
تشي الأجواء السياسية في فرنسا بأنّها تعيش حالة من الانقسامين، السياسي والاجتماعي، ولعلّ هذه الانتخابات تزيد من حدّة الاستقطاب الحاصل، بالنظر إلى حجم الخلافات التي تعصف بأحزاب اليمين واليسار وقواهما، على حدّ سواء، الأمر الذي يضع الجمهورية الفرنسية، ونخبها السياسية، ومعهما المجتمع الفرنسي، أمام امتحانٍ صعب تلتقي فيه جملة تحدّيات داخلية وإقليمية ودولية، إذ تفيد معظم التكهّنات والتوقّعات بأنّ هذه الانتخابات ستتميّز بالمنافسة الشديدة بين تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، الذي يضمّ أربعة أحزاب يسارية (فرنسا الأبية، والاشتراكي، والشيوعي، والخضر)، من جهة أولى، وقوى اليمين المُتطرّف بقيادة حزب التجمّع الوطني اليميني، من جهة ثانية، فيما لا يُتَوقّع أن يُحدث المعسكر الرئاسي بقيادة حزب النهضة خرقاً في الانتخابات، والمرجّح أن يحلّ ثالثاً فيها.
تُظهر البرامج التي أعلنها ممثّلو الأحزاب الرئيسة المشاركة في الانتخابات التشريعية وعوداً مكلفة جدّاً، قطعتها تلك الأحزاب في سياق مالي واقتصادي متعثّر في فرنسا، لكنّها تعكس زيادة حدّة الاصطفاف السياسي، وتباعد مواقف الأطراف السياسية المتنافسة، تغذّيها الهواجس والأسئلة المحلّية، وتضفي عليها طابعاً من الحدّة، فيركّز البرنامج الانتخابي للجبهة الشعبية الجديدة على معالجة مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية، تراكمت منذ سنوات عديدة، وتتمثّل في دعم التعليم المجّاني، واستعادة القوّة الشرائية للفئات الوسطى والفقيرة، وإصلاح نظام التقاعد والنظام الصحّي، وفرض ضرائب على الثروات الكبرى، ودعم الفئات والأسر الفقيرة، وسوى ذلك. ويتطلّب تحقيق ذلك كلّه القيام بتغييرات مؤسّساتية تطاول الأوضاع القائمة في فرنسا، وهو أمرٌ يصعب تحقيقه بالنظر إلى طبيعة الظروف الاقتصادية في فرنسا، التي تتحرّك ضمن ظروف اقتصادية دولية تتميز بارتفاع معدّلات التضخّم ونسب البطالة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزّة، وسواها. ولم يفصّل حزب التجمّع الوطني برنامجه الانتخابي، واكتفى بتقديم اقتراحات تخصّ الإيرادات، وإلغاء "المهارب الضريبية"، خاصّة تلك التي تشمل أصحاب أساطيل سفن الشحن، وخفض مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي بمقدار ملياري يورو. وبدا برنامجه الاقتصادي متردّداً على صعيد بعض تعهّداته الأخيرة، المتعلّقة بإلغاء قانون إصلاح النظام التقاعدي، وإلغاء الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على السلع الأساسية. وقد حذّر اتحاد أرباب العمل (ميديف)، الذي يضمّ مائتي ألف شركة توظّف عشرة ملايين شخص، من أنّه "في حال طبّقت هذه البرامج في 2024 أو بعد ذلك" فإنّها ستؤدّي إلى "ارتفاع في الضرائب، وانسحاب مستثمرين أجانب، وعمليات إفلاس كثيفة لشركات، ما يعني القضاء على فرص عمل" كثيرة. أما المعسكر الرئاسي، فقد كثرت وعوده الانتخابية التي قطعها، وركّزت على دعم القدرة الشرائية للفرنسيين، ومواصلة العمل في محاربة البطالة والتضخّم، كما وعد الرئيس ماكرون الفرنسيين بـ"العمل حتّى مايو/ أيار 2027"، موعد نهاية ولايته الرئاسية، وبأنّ يبدي تعاوناً أكبر في الحكم، وإجراء تغيير عميق في "طريقة العمل والنهج والجوهر"، إلى جانب "البحث عن ائتلافات مع الفرنسيين والمجتمع المدني"، في حال فوز حزبه في الانتخابات التشريعية.
يُظهر واقع الحال في فرنسا صعوبة إقناع الفرنسيين، وخصوصاً الفئات المتوسّطة والدنيا، بجدوى البرامج الانتخابية للأحزاب، وقدرتها في إحداث التغيير، في ظلّ ما وصلت إليه الأوضاع في فرنسا من تردّ وجمود، فمن الصعب إقناع الناخبين الفرنسيين الذين يعتبرون البرامج والوعود مُجرّد كلام موجّه للدعاية الانتخابية، لذلك يزداد العزوف عن التصويت في أوساطهم وفي سواها من البلدان الديمقراطية، بينما يقوم معسكر اليمين المُتطرّف باستمرار، بحثّ أنصاره على المشاركة، ويزيد من التعبئة والتحشيد.

تُرجّح أغلب استطلاعات الرأي فوز اليمين المُتطرّف بغالبية نسبية، فيصعب التعويل على "ذكاء الفرنسيين" للحيلولة دون "السيناريو الأسوأ"، وفقاً لتصريحات ماكرون

لا تثير هذه الانتخابات مخاوف بأن تفضي نتائجها إلى تمكّن اليمين المُتطرّف من تشكيل أول حكومة له في التاريخ الفرنسي فقط، بل أيضاً، في ألّا يتمكّن أي طرف من الحصول على أغلبية مطلقة، ما يعني تشكيل جمعية وطنية معلّقة، ومعطّلة، وتسيطر عليها ثلاث كتل متنافرة، تتمثّل في اليمين المُتطرّف، وتحالف اليسار، ومعسكر الرئيس، فيصعب على أي كتلة تشكيل حكومة بمفردها، أو التوصّل إلى تفاهمات جدّية مع الأخرى، ما يعني إصابة الحياة السياسية بالشلل التام، في ظلّ أوضاع اقتصادية متردّية تعصف بفرنسا، فضلاً عن تعقيدات الأوضاع الدولية مع استمرار الحرب في كلّ من أوكرانيا وقطاع غزّة. لذلك، فإنّ القضية المهمة في هذه الانتخابات هي نسبة التصويت، والفئات الاجتماعية، التي ستفضل التوجه إلى صناديق الاقتراع، إذ ينتظر أن تزيد نسبة المشاركة في التصويت، وفق استطلاعات الرأي، بما يتجاوز نسبة 60%، وهي أعلى بكثير من نسبة المشاركة التي بلغت 47.5% في الانتخابات العامة، التي جرت أخيراً، في يونيو/ حزيران 2022.
كان رهان ماكرون حين دعا إلى انتخابات مُبكّرة أن يدفع الناخب الفرنسي لمواجهة كلّ من اليمين المُتطرّف ممثلاً بحزب التجمع الوطني، واليسار الراديكالي ممثّلاً بحزب فرنسا الأبية، عبر جمع جبهة واسعة من يمين الوسط ويسار الوسط في تيّار واحد. وبعد اتضاح الخريطة الانتخابية الحزبية، بدأ ماكرون بالدفاع عن "النهج الثالث"، ممثّلاً بالمعسكر الرئاسي، ودعا إلى "ردود أكثر قوّة وحزماً".
ينطوي رهان ماكرون على مجازفة كبيرة يمكن أن تنقلب عليه وعلى معسكره، ويصفها بعضهم بالخطيرة، قد تؤدّي إلى تسليم البلاد للفوضى، إذ تُرجّح أغلب استطلاعات الرأي، فوز اليمين المُتطرّف بغالبية نسبية؛ لذا من الصعب التعويل على "ذكاء الفرنسيين" للحيلولة دون حدوث "السيناريو الأسوأ"، وفقاً لتصريحاتٍ أطلقها ماكرون في حملته الانتخابية. ومع ذلك، الكلمة الأخيرة للناخب الفرنسي، وقد تخالف كلّ التوقّعات والرهانات، وفي ضوئها سيتحدّد شكل النظام السياسي وطبيعته في فرنسا خلال السنوات المُقبلة.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".