هذا المثقف العربي مناضلاً تحت راية الاحتلال
قبل سنوات قليلة، وفي أتون حرائق الاشتباك الطائفي في الشارع العربي، تمكّنت آلة تدمير الوعي من فرض سؤال جنوني على مائدة النقاش، حتّى ولو كان افتراضيّاً في المنصّات الإلكترونية. كان السؤال يقول: لو حاربت السعودية، مدعومةً أو متحالفةً مع إسرائيل، حزب الله وإيران الآن، فمع من تقف؟
كان طرح السؤال بحدّ ذاته يُعبّر عن هزيمة حضارية شاملة، إذ ينقلنا من حالة الاختناق بغبار الخلط بين العدو الاستراتيجي والخصم الحضاري، والجار المزعج والشقيق الذي نختلف معه مذهبياً، إلى معادلة منحطة: مع الدول العربية السنّية وإسرائيل أم مع حزب الله والحوثيين وإيران.
عملية إشعال ذلك الحريق الهائل في الوعي والوجدان العربيين يتكشّف الآن صناعةً ثقافيةً ثقيلةً يُنفَق عليها ببذخ، ويُجنّد فيها مثقّفون وإعلاميون يجاهدون بلا كلل أو ملل في مشروع هدم قواعدَ المنطق والأخلاق، ومرتكزات الهُويَّة الحضارية والثقافية، واقتياد المجتمع العربي إلى حظائرَ الدونية الحضارية، والانهزامية الحتمية، من خلال خطاب تتبنّاه وتكرّسه دوائر إعلامية وثقافية تشتغل طوال الوقت في تحقير المقاومة، أشكال المقاومة كلّها للزمن الصهيوني، والتشكيك في أيّ انتصار تحقّقه الجبهات المناوئة لهذا المصير البائس. هنا تبرز نموذجاً صارخاً حالة الإعلامي المصري إبراهيم عيسى، المُتعصّب باحتراف لحسن نصر الله في بدايات الألفية، والمُعجَب بشراهة شديدة، بمعارضة الأخوان المسلمين حقبة حسني مبارك. ذلك الإعجاب الشره الذي أنتج دعماً ماديّاً إخوانيّاً لصحيفته الخاصّة، التي كان قد حرّض على إغلاقها نجيب ساويرس ومجموعة رجال الأعمال الأقباط.
على أنّ التجلّي الأوضح لمشروع العداء للمقاومة، تجده في مجموعة القنوات التلفزيونية المُنطلِقة من دبي، "العربية" وأخواتها، التي لا تكتفي بالتسفيه للعمل المقاوم والسخرية منه فقط، وإنّما تصل إلى أبعد من ذلك في الكفاح خلف الفكرة الصهيونية القديمة من أجل الشرق الأوسط الجديد، الأمر الذي يجعل من هذه المنابر طرفاً أصيلاً في المعركة ضدّ فكرة المقاومة العربية، والمدعومة إيرانيّاً تحت شعار التصدّي للمشروع الفارسي والتمدّد المذهبي، إلى آخر هذه القائمة من المقولات التي تتردّد بالصياغات والألفاظ ذاتها على ألسنة الناطقين باسم الاحتلال الصهيوني.
حالة هذا المثقف العربي، والإعلام العربي المحارب ضدّ المقاومة، تكمل صورة انفجار التاريخ القديم أمامنا، التي أعادت كلّ شيء في نسخة عصرية، الاستعمار القديم والولاة العاملين في خدمته، والنُخَب التي تناضل بسلاح الكهنوت الديني والثقافي، تراها وكأنّها الوجوه الكريهة ذاتها، التي تطوّعت للخدمة في جيوش غزاة الحملات الاستعمارية على الشرق. وهنا تجد في الخندق الواحد، بالخطاب ذاته والهيئة ذاتها، إبراهيم عيسى وغلاة السلفية المتشنِّجة، من جهاديين سابقين ومشايخ سلطة، تجدهم في عناق فكري حارّ وتشابك خطابي كأنّهم لم يكونوا من قبل خصوماً ألدّاء يحاول بعضهم إزالة بعضهم الآخر من الوجود.
اجتمع هؤلاء وأولئك على خطاب يُثلِج صدر الصهيوني ويتبنّى أحلامه في الانتصار على الوعي العربي المتمنّع على الاستسلام لفكرة أنّ الهزيمة قدر هذه الأمة، وأنّ انتصاراتها ليست سوى أعمالاً مسرحيةً وتمثيليةً، على نحو ما بدت البغضاء والسخرية الرقيعة من ضربات إيران لعمق الكيان الصهيوني، وبطولات المقاومة في الجنوب اللبناني وغزّة، والإسناد الرائع لهما من اليمن والعراق.
كان الظنّ أنّ هذه الرقاعة والوضاعة في مناصبة المقاومة العداء والشماتة والتشفّي في جراحها وآلامها، سوف تتوارى خجلاً، وهي تتابع قيامة البسالة والصمود من تحت رماد حرائق المجازر الصهيونية في بيروت وغزّة، غير أنّه تبيّن أنّها وضاعة استراتيجية، تقاوم المقاومة بغلٍّ يتجاوز مثيله الصهيوني، وتتمسّك بنوع من الرقاعة المبدئية.
مثل العصف المأكول أمام طير أبابيل يتخبّط ما تبقّى من مليشيات القتال الطائفي ضدّ المقاومة، والشماتة في شهدائها، صارخين "مسرحية.. تمثيلية"، معلنين انسلاخهم من كلّ ما هو مضيء في هذه الأمّة.. يكاد بعضهم ينتحب بالعبري.