هدايا السيسي الفاضحة: شرعية المسلسل
وفّر المرشحان الرئاسيان السابقان، حمدين صباحي وعبد الفتاح السيسي، جهدا كثيرا على الذين يبحثون عن إجاباتٍ على أسئلة تتعلق بالحرية الإنسانية، والعدالة القانونية، والإدارة السياسية في مصر، ذلك أنه في لقطتين اثنتين، لا ثالث لهما، انهمرت الإجابات، لتعلن أنه لا حرية ولا عدل ولا إدارة في البلاد، وليس هناك سوى منح وعطايا تلقى من شرفة السلطان على من يجري اختيارهم لتقديم القرابين.
في المشهد الأول، استدعى عبد الفتاح السيسي، حمدين صبّاحي، إلى حفل إفطار رمضاني، فلبّى الاستدعاء، وذهب مسرورًا محبورًا، مصطحبًا معه وريثه في رئاسة حزب اسمه "الكرامة"، محمد سامي. والأخير صاحب اعتراف مثير، أدلى به على الهواء مباشرة، في مداخلة مع تلفزيون العربي، عن وظيفة حمدين في نظام السيسي، حيث قال بالحرف إنّ "خوض حمدين صباحي الانتخابات الرئاسية الماضية (2014) كان لإعطاء شرعية لإدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي". ثم أضاف: "ومن غير اللائق أمام العالم أن نظهر وكأن انتخابات مصر عملية ورقية، وتشكّك في شرعية الرئيس السيسي".
إذن، هذا هو الدور الذي أراده السيسي، ولا يزال، لحمدين، والذي ارتضاه حمدين لنفسه، وهو ما تكرّر في هذا الأسبوع، مع استدعائه مجدّدًا إلى معسكر السيسي الذي تجمّع في إفطار رمضاني، لتكون اللقطة الفاضحة، حين انحنى حمدين قليلًا حتى تكون الأذن السيسية في متناول فمه، ليهمس فيها طالبًا العفو عن "أحد أبنائه في تياره الشعبي" الصحافي حسام مؤنس، المسجون ظلمًا في قضية واحدة مع الصحافي هشام فؤاد، والسياسي والمحامي الشاب زياد العليمي، وثلاثة آخرين من المحترمين المظلومين.
لم ينته حفل الإفطار حتى كانت جميع المواقع الإلكترونية، والصفحات الشخصية لدوائر السيسي وحمدين، تنشر خبر إطلاق سراح حسام مؤنس، قبل أن تنشر الجريدة الرسمية قرارًا رئاسيًا بالعفو عنه.
في اليوم التالي، الذي هو أمس الخميس، تنشر المواقع ذاتها اللقطة الثانية، والتي تبدو وكأنها زفّة شعبية لحمدين، أكثر منها احتفالية بلحظة مغادرة حسام مؤنس السجن، إذ تركّز عدسات التصوير على حمدين صبّاحي، ومعه المخرج السينمائي، خالد يوسف، العائد قبل نحو عام من باريس بعفو مماثل، وإنْ كان غير قانوني، لتقام الأفراح والاحتفالات في أوساط الناصريين والتيار الشعبي.
لم يسأل أحد في زحام زفّة حمدين، عن مصير بقية المحبوسين مع حسام مؤنس في القضية الواحدة، وبمقتضى الحكم القضائي الواحد، غير أنّ الأهم من ذلك، أنّ لقطتي حمدين تفضحان كل محاولةٍ منحطّة لإخفاء دمامة هذا النظام وقبحه وصفاقته، أو محاولات الزعم إنّ تغيّرًا قد طرأ أو سيطرأ على سلوك سلطةٍ اختطفت الحكم بجريمة.
تبقى الحرية مهانة ومهدورة، بمثل هذه اللقطات التي لا تختلف كثيرًا عن الصور القديمة الموروثة من أزمنة الاستبداد السحيقة، حيث شاعر أو سياسي أو كاهن يكيل المديح لحضرة السلطان، ويقبّل يديه وينحني عند قدميه، فيلقي له السلطان بصرّة من الدنانير، أو قطعة من الذهب، أو قرار عفو رئاسي، فيصير الطاغية ملاكًا يغمر الدنيا رحمة وإنسانية بجناحيه.
هذه التفاصيل المخجلة في لقطات حمدين والسيسي لا تشين الضحية الذي استعاد حرّيته المستحقّة، ولا تصادر الفرحة بخروجه، لكنها تصلح إجابةً وافيةً شافيةً على كل من يسأل عن مستقبل السجناء والمعتقلين في مصر، والذين يبقى مصيرهم مرهونًا بعطية، أو عطايا، يرمي بها السلطان على مداح، أو مدّاحين، ممن لديهم استعداد لتقديم الثمن، على طريقة حمدين صبّاحي.
كان السيسي يبحث عن شرعيةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ لجريمة كاملة اسمها "مسلسل الاختيار 3"، والذي هو ملحق تكميلي لجريمة شقّ المجتمع المصري نصفين، التي بدأت في يونيو/ حزيران 2013، ولم تتوقف، مستخدمةً كل الأسلحة القذرة من تزوير في التاريخ وتزييف في الحقائق وقصّ ولصق وتركيب المقاطع المسجلة لتيار سياسي مطلوب استكمال عمليات استباحته وشيطنته وتشويهه وإحكام تصنيفه واعتماده عدوًا وحيدًا وخطرًا وجوديًا أوحد.
هذا السخام الدرامي، المستخرج من مستنقعات دولة التسجيلات، يريد عبد الفتاح السيسي أن يحصل على شرعيةٍ له، تغسل ما به من عار سياسي وعوار تاريخي، وكذلك يحوّل المسلسل نفسه إلى مصدر لشرعية أخلاقية وسياسية، فشل في تحقيقها على مدار تسع سنوات، رغم تمتّعه بما تسمّى شرعية الأمر الواقع، وهو ما سعى إليه من خلال إقامة الإفطار الرمضاني ليمسك بالميكروفون، ويحيّي حمدين ويشكره على حضوره، قبل أن يعترف بأنه المؤلف الفعلي لأكاذيب المسلسل، والمموّل الحقيقي لتكاليف إنتاجه الضخم، ويقول إن مسلسله شريف وعفيف، مثله تمامًا.
يعرف حمدين صبّاحي والسيسي، ومعهما خالد يوسف، جيدًا تقنية التقطيع والتركيب في الصور والتسجيلات، ويعرفون تمامًا من الذي باع، ومن الذي قبض، ومن الذي كذب ولفّق، لكن مصلحة الأطراف التقت على أهمية اعتماد المسلسل تاريخًا رسميًا للمرحلة.
حمدين وغيره، يظهرون، دائمًا، في المحطّات الحرجة في رحلة هذا النظام، وجاهزون لتنفيذ مهام الانتشال، كما جرى في مسرحية انتخاب السيسي، وكما تأكّد حين عرفت الجماهير طريقها إلى الميادين والشوارع في تظاهرات تيران وصنافير، قبل ست سنوات، وتدفقت بإيقاعات هادرة اهتزّت لها أركان النظام.
وما جرى في 26 أبريل/ نيسان 2016، أنّ بعضهم لعب دور "الشفاطة"، متحايلًا على حراكٍ جماهيري هادر دفاعًا عن الأرض، حيث تم "شفط" شلال الغضب إلى سراديب القضاء، حتى ماتت القضية بالتبريد والتجميد، وانتهى الأمر بتسليم الجزيرتين.
وتشاء الأقدار أن يتكرّر الأمر بصورة أخرى في اليوم نفسه 26 أبريل/ نيسان 2022 مع تعديل بسيط، إذ يتم لعب دور "الشطافة" هذه المرّة بدلًا من "الشفاطة" فيجري غسيل مسلسل "الاختيار" وشطفه بكل تلوثه من أكاذيب وافتراءات ومقاطع مركّبة، بتحويله إلى وثيقة معتمدة في دهاليز القضاء أيضًا، باستخدام مقاطع منه، أدلة براءة لبعض المسجونين، بحجّة أنّ التسجيلات أظهرتهم يسبّون "الإخوان" في المسلسل، وبالتالي هم أبرياء ومواطنون صالحون، بموجب شرعية "الاختيار3".
لا يفهم هؤلاء الانتهازيون أنّ منح شرعية قانونية وسياسية لهذا التلفيق الدرامي ربما يجعلهم هم شخصيًا من ضحايا تسجيلات المسلسل في مواسم قادمة.