نظام الأزمات في العراق

20 اغسطس 2024
+ الخط -

كشفت الأزمة المستمرّة بشأن تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، والذي تُصرّ الأحزاب الإسلامية الشيعية على تمريره، أنّها ليست سوى مظهرٍ لمشكلة أعمق، ثُبّتت أركانها في الأيام الأولى للنظام السياسي الجديد بعد إبريل/ نيسان 2003، حين جرى التعامل مع المجتمع، لا على أساس أنّه مجتمعٌ عراقي، وإنّما مجموعةٌ متباينةٌ من المجتمعات، وكلّ واحدٍ منها محكوم بأعراف وقوانين خاصّة.
تجاهل آباء النظام السياسي الجديد 82 سنة من حكم الدولة الوطنية، وصُفّرت عدّادات الدولة العراقية، ليبدأوا بتشكيل نظام جديد، وذاكرة جديدة، جرى العمل على ترسيخها في المجتمع بقوّة، تنظر إلى كلّ حقب الدولة الوطنية في العراق أنّها حقبةَ حكمِ نظامٍ طائفيٍّ تتحكّم فيه "أقليّةٌ سنيّةٌ". ولم يطرحوا مفهوماً بديلاً عن الوطنية العراقية، وإنّما سحقوها تماماً، إن كان في مستوى الخطاب أو في مستوى الاجراءات التي تُرسّخ وجود جماعات طائفية وعرقية في البلد، ترفع كلّ واحدةٍ منها هُويَّتها الطائفية أو العرقية إلى مستوى الهُويَّة العُليا، بديلاً من الهوية الوطنية.
عبَّرتْ، منذ وقت مبكر، شخصيّات عديدة من أوجه الإسلام السياسي الشيعي عن عدم إيمانها بفكرة الوطنية، وهناك على سبيل المثال تنظيرات مُصدّعة للرؤوس نشرها في صفحات الصحف رئيسُ الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، ثمّ جمعها في كتاب فيما بعد، يُحاول فيه أنّ يُشدد على استحالة فكرة الوطنية، وأنّ قدر العراق أن يكون جماعاتٍ لا مجتمعاً واحداً.
حتّى الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي احتلّت أجزاء من العراق، فإنّ عديدين ممّن اندفعوا لقتالها كان وازعهم الدفاع عن شيعيَّتهم لا عن الوطن العراقي. ولأنّهم لا يؤمنون بصلاحية الفكرة الوطنية، فإنّها مُتهّمة عندهم، وتبدو شعاراً زائفاً يريد من يرفعه غرضاً آخر غير الوطنية المتوهّمة.
لا يرضي هؤلاء أنّهم فعلياً يتحكّمون في العراق من شماله الى جنوبه، وأنّهم استطاعوا ترويض النُخَب السياسية والاجتماعية للمكوّنات الأخرى، وإخراس غالبية المُعارضين من وطنيين وغيرهم، وإنّما يريدون المزيد من "شيعنة" الدولة أو "تشييعها"، والمزيد من فرض تراتبيّات الدين والطائفة على المساواة التي تفرضها الديمقراطية وحقوق الإنسان، ففي الديمقراطية يحقّ الكلام للجميع، ومن حقّ (بل ومن واجب) الجميع أن يتكلّموا حتّى يسهموا في بناء بلدهم. أمّا في التراتبية الدينية الطائفية، فإنّ حقّ الكلام محصور بالنخبة الدينية أو من يدين لها بالولاء، ومن يخالفهم عاصٍ أو خارج عن الملّة، أو أنّه يتبع ثلّة من "المنحرفين والساقطين"، كما عبّر أحد رجال الدين المنزعجين من اعتراض من اعترض على مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية.
يحرف الانشغال بـ"تشييع" الدولة وأسلمتها بوصلة الاهتمام العام بقضايا أكثر حيوية، مثل وقوف العراق على الحافّة، بسبب تخصيصه ما يقارب الـ 70%، حسب بعض الإحصاءات، من واردات النفط لمُرتَّبات الموظّفين والرعاية الاجتماعية والتقاعد. فإذا نزلت أسعار برميل النفط إلى حدود 60 دولاراً، فستكون الواردات كافيةً بالكاد لتسديد هذه المُرتّبات، فضلاً عن التفكير بتمويل المشاريع الحيوية والتنموية.
الانشغال بمأسسة زواج القاصرات وتشريعه، وسلب مزيد من حقوق المرأة التي أقرَّها قانون الأحوال المدنية النافذ، يحجب النظر عن الكوارث التي يعيشها المجتمع العراقي من سنوات بسبب الزواجات المُبكّرة، والتي تُؤدّي إلى طلاقات مُبكّرة، ثمّ ضياع الأبناء ما بين الأبوين.
إنّ نظاماً سياسياً يقسّم المجتمع إلى جماعات، ولا يعمد إلى تنمية البيئات الجامعة لكلّ العراقيين، وإلى تشريع قوانين للمواطنين كلّهم، والتفكير بمصلحتهم الجماعية، ويخشى من الرقابة ويحارب من ينتقد أو يكشف الخلل، لن يُنتِجَ استقراراً أو تنميةً حقيقيّةً، مكرّساً جهده لاختلاق الأزمات ذات النَفَس الطائفي والعنصري، والتي تُحفّز جمهوره الضيّق من المُتطرّفين في مواسم الانتخابات.