إرباك قواعد اللعبة في العراق

08 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

عشية الذكرى الأولى لأحداث 7 أكتوبر يبدو أن الاستجابة العراقية لهذه الأحداث المزلزلة للمنطقة وصلت بتناقضاتها إلى أقصاها؛ فبعد أيّام من التهليل والاحتفال بعملية نفّذتها فصائل في "المقاومة الإسلامية في العراق" في الجولان أدّت إلى مقتل جنديين إسرائيليين وجرح 24 آخرين، ها هي الفصائل المسلّحة كلّها تجتمع في هيئة الحشد الشعبي، لتعلن غسل يدها من العملية. ولم يتبنَّها أيٌّ من الفصائل المعروفة، بل ادّعوا أنها ربما تكون من تنفيذ فصيل عراقي مسلّح مجهول، أو أن إسرائيل "فبركت" العملية كلّها من أجل استهداف العراق (!)
على الأرجح، تعرف هذه الفصائل جيّداً من نفّذ العملية، ولكنها خضعت مكرهةً لضغط الحكومة العراقية، وللتهديدات الإسرائيلية والأميركية الجديّة... وقد احتفظت الحكومة بحالة من ضبط النفس على مدى العام المنصرم، بكل صفحات المواجهة التي خاضتها إسرائيل مع حركة حماس في قطاع غزّة أولاً ثم مع حزب الله في لبنان، والمناوشات التي بدأت بالتصاعد مع إيران. وعلى الرغم من إعلان الحكومة في أكثر من بيان شَجْبَها للعدوان الإسرائيلي على المدنيين وسقوط الضحايا وتهديم المباني وتشريد المدنيين من بيوتهم ومنازلهم، وأيضاً مشاركة الحكومة في أعمال الإغاثة وتقديم المساعدات الإنسانية، لكنها نأت بنفسها عن أي تعاون يمكن أن يُفهم منه اشتراك العراق في المواجهة الدائرة في المنطقة.
تشكّل الأحزاب الإسلامية الغالبية الساحقة في الجسم الحكومي، والبرلمان الداعم للحكومة، وهذه الأحزاب عبّرت، منفردة، عن تأييدها الجانبين، الفلسطيني واللبناني، في مواجهتهما مع إسرائيل، كما أنها لم تمانع من اعلان بعض الفصائل المسلّحة نيّتَها الاشتراك المباشر في القتال. وتقدّم القنوات الإعلامية التي تديرها هذه الأحزاب الرواية الفلسطينية واللبنانية لمجريات الحرب، وتحشّد جمهورها السياسي لتبنّي هذه الرواية في الصراع مع إسرائيل. ولكنها تعرف جيداً أنها غير قادرة على تجاوز هذه الحدود، فالعراق أضعف من أن يكون له دور أكبر في هذا الصراع. وعلى الرغم من التأثير الكبير لإيران في الساحة العراقية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، تبقى الغلبة لتأثير الولايات المتحدة، فهو يتحكّم في سماء العراق، ولا تمرّ الواردات النفطية العراقية إلا من خلال القناة الأميركية. كما أنه بالمقارنة بالساحتين، الفلسطينية واللبنانية، وما حدث فيها من اختراقات استخبارية، فإن العراق مستباح استخبارياً من قبل أميركا، وهي قادرة، بصورة أسهل، على تحديد أماكن الأهداف الموجعة للفصائل والجماعات المسلّحة المناوئة لأميركا وإسرائيل.
تعي الحكومة العراقية هذا جيداً، وأن الوضع في العراق هشّ جداً، لهذا تحاول ضبط إيقاع الفصائل المسلّحة، ومنعها من خوض مغامرة غير مأمونة العواقب، خصوصاً أن تقارير كشفت أن أميركا ستمنع إسرائيل من توجيه ضربة مباشرة داخل الأراضي العراقية، وأنها هي (أميركا) من ستنفّذ ضربات مماثلة، إن اقتضت الضرورة.
تركيبة السلطة في العراق معقّدة، لجهة تداخل المليشياوي مع الرسمي، وكان هناك نوعٌ من العقد الخفي، يتيح للفصائل الأكثر راديكالية أن تنفّذ ما تريد من عمليات تجاه المعسكرات التي تؤوي متعاقدين أميركيين، كما قاعدة عين الأسد غربي العراق، أو حرير داخل محافظة أربيل في الشمال. ولكن بشرط أن لا تخلّف خسائر مادية أو بشرية، فتنال شيئاً من الضوء الإعلامي، وشيئاً من إعلان الوجود، ولا تضع الحكومة العراقية في موضع الحرج أمام أميركا، التي تُعتبر دولة حليفة للعراق وشريكة معه في أكثر من صعيد.
لكن الزلزال الكاسح الذي خلّفته الصواريخ الإسرائيلية التي تمطر بنيرانها على جوانب المنطقة، وتغتال الشخصيات المؤثرة، وتشرّد المدنيين، أربك قواعد اللعبة الخفية في العراق، خصوصاً مع إدراك أنه على الرغم من حرص أميركا على عدم إحراج الحكومة العراقية، لا تبدو إسرائيل معنية بهذه المطالب، وربما تسعى إلى مزيد من النيران والفوضى في المنطقة، متكئةً في هذا الهدف على تفوّقها التقني والاستخباري، والدعم العسكري غير المحدود من أميركا والغرب عموماً.