مُنع في مصر

31 يناير 2023

(عفت ناجي)

+ الخط -

إذا أردت أن تعرف شخصاً ما... مجتمعاً ما.. ثقافة ما.. وطبعاً سلطة ما، فانظر ما "الممنوع" لديهم. ليس كمثل المنع باباً مفتوحاً لمعرفة المانعين والممنوعين والممنوع عنهم أو بهم أو لهم. يستفيد المراقب من المنع أكثر من غيره، المنع يسمح... يمنح... يشرح... يفضح، ويفكّك مخاوف "المانع" وهواجسه وعجزه وغروره و"أمراضه"، ويكشف عن سياساته وتوازناته وتحالفاته وعداواته و"حقيقة" انحيازاته، بعيدا عن حيل الخطاب وأقنعته. المنع صورة المانع "بالحجم الطبيعي"... لكن من يقدِر على الاقتراب أو التصوير؟
ثمّة بديهيات زائفة عن المنع في خطابات الممنوعين أو المتعاطفين معهم، إذ ليس صحيحاً أنّ المنع لم يعد ممكناً في عصر السماوات المفتوحة، أو أنه يزيد من رواج الممنوع، أو أن الأنظمة السياسية "المانعة" غبيّة وخارج الزمن. تمنح التقنية أدواتها لمن يدفع، ومؤسّسات السلطة أغنى من الأفراد، بطبيعة الحال، ولا يعني "إتاحة" الممنوع، بوسيلةٍ أو أخرى، أنّ المنع غير مؤثّر، فالمنع لا يستهدف مادّة الممنوع بقدر ما يستهدف صاحبها، وقدرته على "الاستمرار". "ختم خروج" من ذمّة الدولة، وإعلان "عداء" واضح لصاحب المادّة الممنوعة ومن معه. يتحوّل الكاتب، أو الصحافي، أو الإعلامي، أو الفنان "الممنوع" إلى "مشبوه"، ومصدر "قلق" لمن يحملونه إلى زبائنه، محروماً من الناشر... من المنتج... من الموزّع... من المُعلن... من "الظهير" محروماً من التنفّس خارج "هوى" السلطة المانعة، والتي تتحكّم بمصائر هؤلاء جميعاً، وحيداً، رغم أنف داعميه، مسجونا، وإن بدا غير ذلك. (ثمّة استثناءات محفوفة بمخاطر التحولات السياسية).
بدأت في العام 2015 إعداد برنامج وثائقي بعنوان "مُنع في مصر". توقّف المشروع لأسباب إنتاجية، ولم يتوقف شغفي بمتابعة "الممنوع" مصرياً وعربياً، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مصر... سورية... لبنان... العراق... دول الخليج... المغرب العربي... إلخ. الصورة (حبس الظل)، تقريباً، واحدة، وإن اختلفت، أحياناً، في الغاية والتقريب وزاوية الالتقاط ومصدر الإضاءة. 
وإذا أردت أن تقترب من "الصورة" في مصر الآن، فهي واضحة (على اهتزازها) في "ممنوعات" معرض القاهرة الدولي للكتاب. لفتت نظري أربعة عناوين: "الدولة في الجندي: الجيش وتغيير النظام الدستوري في مصر" (رشاد توام)، "عثرات في الميدان: كيف أخفقت ثورة يناير في مصر" (عبد الفتاح ماضي)، "الديمقراطية والبندقية: العلاقات المدنية العسكرية وسياسات تحديث القوات المسلحة" (عبد الفتاح ماضي)، "العلاقات المدنية العسكرية والتحوّل الديموقراطي في مصر بعد ثورة 25 يناير" (هاني سليمان). والكتب الأربعة من إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ما يعني أنها بحوثٌ أكاديمية، متخصّصة، تستهدف النخب، لا القارئ المتوسط، كما أنّ حجم رواجها وانتشارها وتأثيرها لا يشكّل خطراً حقيقياً على سلطة "نصف مستقرّة"... فلماذا المنع؟
تبدو الكتب من عناوينها محاولات واجتهادات في سبيل تجاوز الأزمة. وفي المقابل، تبدو الدولة المصرية في أضعف حالاتها، وأكثرها خوفاً ورعباً من أي نقاشٍ بشأن الأداء السياسي للمؤسّسة العسكرية و"صاحبها". ويرفض عبد الفتاح السيسي، في خطاباته المتكرّرة، تحميله أي مسؤولية عن انحطاط أحوال البلاد في عهده، كما يرفض بشكل واضح (وأحياناً عنيف) أي حلول من خارج الدولة المصرية، ويتّهم أصحابها، وإن كانوا مصريين، بإثارة البلبلة، والضغط على الناس، وتخويفهم، والعمل ضد مصلحتهم، ويطالب الجميع بـ "الصمود" أمام الظروف الصعبة، ويتساءل مستنكراً: "هو احنا دخلنا حروب أو مغامرات ضيّعنا فيها أموال مصر"؟ في إشارة إلى حرب اليمن وهزيمة يونيو (1967)، ومسؤولية جمال عبد الناصر عنهما، وشعبيّته التي لم تهتز جراءهما. وفرصته التي أخذها كاملة في التجريب والفشل. فلماذا لا يأخذ عبد الفتاح السيسي مثله؟ 
يحتاج الرئيس إلى من يخبره أنّ إدارته الفاشلة تجاوزت في نتائجها المدمّرة آثار حربين، وهزيمة موجعة هي الأكبر في تاريخنا الحديث، كما تجاوزت سياساته الاقتصادية العشوائية الحرب الروسية الأوكرانية وفيروس كورونا. وإذا كان ثمّة ما يستحق "المنع" في مصر، الآن وحالاً، فهو الرئيس نفسه، والذي لا يجدي مع استمراره في موقعه أي صمود. الرحمة.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان