30 يونيو وما بعده نتيجة لما قبله
كان من المتوقّع أن نظلّ سنواتٍ طويلة في مصر، وفي بلدان الربيع العربي، نتلاوم حول الانقلاب العسكري الذي وقع في 3 يوليو/ تمّوز 2013، وعطّل، إلى حين، أول تجربة ديمقراطية في تاريخنا الحديث، وفتح الباب أمام تعطيل غيرها. لكن غير المتوقّع، أو المقبول، أن تظلّ خطابات التلاوم هي كلّ ما نستطيعه بعد 11 سنة من الانقلاب. اجتهد كلّ فريقٍ في أن يُحيل الأخطاء كلّها على الآخر، مع اعترافٍ نظري (سدّ خانة) بأنّه هو الآخر أخطأ، ولكن ليس مثل الآخر، فأنا في روايتي ربّما مخطئ، وأنت في روايتي يقيناً مُجرم. تجاوزت بعض الأصوات العاقلة هذه الخطابات الحدّية إلى إدانات واضحة للذات، سواء في التيّار الإسلامي أو في التيّار المدني. وكان آخر ما قرأتُ في "بوست" للحقوقي البارز جمال عيد، خلاصته أنّ الغضب والخوف من "الإخوان المسلمين" كانا سبب التظاهر ضدّهم، وأنّ المطلب لم يكن الانقلاب العسكري، إنّما الانتخابات المُبكّرة، وأنّه شارك، رغم خبرته بالنُّظم العسكرية في أميركا اللاتينية، وغيرها، وكان مثل عسكري الشطرنج في لعبة ليست له. ثمّة خطاباتٌ وشهاداتٌ أخرى استمعتُ إليها في السنوات الماضية من شباب جماعة الإخوان وبعض شيوخها تحمل الحسّ النقدي نفسه، وربما أكثر، وإنْ لم يمتلك أصحابها شجاعة جمال عيد في إعلانها، لأسبابٍ عدّة أكثرها أهمّية أنّها سوف تمسّ آخرين، لقي بعضُهم ربّه، وأكثرهم في السجن.
لا أظن أنّ سؤال "من السبب؟" مُهمّ أو مفيد أو قابل للإجابة. ثمّة أسئلة أخرى من الممكن، وربّما من الواجب الإجابة عنها، أكثرها أهمّية: لماذا نجحت الثورة المُضادّة؟... تدور الإجابات الرائجة حول "حتميّة" نجاح الانقلابات والثورات المُضادّة في بلادنا، وهي حتمية مُتخيّلة تستند إلى تآمر أجهزة الدولة، وهو ما حدث، ودلّت عليه قرائن واعترافات، وكذلك تآمر أنظمة إقليمية ودولية لا تريد للدولة الأكثر تأثيراً في محيطها العربي أن تتحوّل ديمقراطيةً، وتصدّر تلك الديمقراطية إلى غيرها، فتهتزّ عروش وجيوش ومصالح كُبرى. مفهوم، لكنّ المؤامرات حدثٌ يوميٌّ في عوالم السياسة، تقع الانقلابات وتفشل. في بوليفيا مثلاً، وفي تركيا، وفي غيرهما، كما تقع شبه انقلابات، وتتحوّل انقلاباتٍ ناجحةً، بل شعبية. في مصر وغيرها، لا حتميّة هنا، إنّما صراع يحتمل انتصار أحد الطرفَين، ويحسمه الأكثر استعداداً، فلماذا كنّا، وما زلنا، جميعنا، الأقلّ استعداداً؟
ثمّة جوانب مُتعدّدة تحتاج إلى البحث عنها وفيها، وذلك أجدى من تبادل الإدانات واستمراء الابتزاز العاطفي، وتحوّله أحياناً إلى "أكل عيش"، أحد هذه الجوانب، في ظنّي، هي المعرفة، معرفة البلد ومعرفة الدولة ومعرفة الناس العاديين، الملايين الذين منحوا الثورة هتافاتها منذ 28 يناير/ كانون الثاني 2011، ثم منحت "الإخوان"، بوصفهم الفصيل الأكثر جاهزية، أصواتهم في ستّة استحقاقات انتخابية، ثم نزلت ضدّهم، وضدّ التجربة كلّها، بعد عام واحد، وكان لديها أسبابها التي تستحقّ معرفتها، بدلاً من إدانة أصحابها في تعالٍ، ووصفهم بالعبيد، بعد أن كانوا، في الخطاب نفسه، شعباً عظيماً، دعم ثورته وأبهر العالم، والتفنّن في صيغ تقريعهم والشماتة الرخيصة في أحوالهم الاقتصادية، ومعايرتهم بأنّهم تراجعوا عن دعم نظام 3 يوليو (2013) الآن بعد أن جاعوا، في حين وقف الثوري الطُّهراني أمام هذا النظام من أجل "الحرّية" (ضع هنا ما شئت من "إيموشن"؛ الضحك أو البكاء، سيّان).
أحد أكثر الإجابات تبسيطاً مُخلّاً، ومُضلّلاً، أنّ الجميع أخطأ في حقّ الجميع، والأقرب، فيما أزعم، أنّ الغالبية لم يكن لديهم من المعرفة بهذا البلد ما يكفي لتغييره، كما أنّه لم يكن لديهم من المعرفة بأفكارهم ولافتاتهم التي يزعمونها ما يكفي لتحمّل استحقاقاتها. غلبت الشعاراتية على أفكار "الدولة الإسلامية" وتطبيق الشريعة، والدولة المدنية والتحوّل الديمقراطي والليبرالية والعلمانية، وحرّية التعبير وسلطة القانون واحترام الصندوق، وبدا الجميع في منبره، مثل هذا الشيخ الهزلي، الذي وقف يوماً يقول: "مدنية يعني إيه يا برادعي؟ يعني أمك تقلع الحجاب". تعدّدت صياغات "الإفيه" والضحك واحد، ولكنّه ضحك كالبكاء.