أليس بيننا سياسي؟

09 يوليو 2024

جنديان مصريان عند مدخل للقصر الرئاسي في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة (Getty 3/7/2013)

+ الخط -

انتشرت بعد انقلاب الثالث من يوليو (2013) في مصر صورة جنديٍّ من الجيش يحمل طفلاً رضيعاً. اعتلت الصورةُ واجهاتٍ إعلانيةً في الشوارع والميادين، ومنتجات فنّية دعائية تبثّها الشاشات في مدار اليوم. تختصر الصورة علاقة الحكم العسكري بالمصريين، كما يتصوّرها الحاكم، وكما يتصوّرها المحكومون كلّهم. توجد السلطة حيث يُصدّق الناس وجودها. وهي في مصر إمّا عند الجيش، أو ملقاة في الشوارع تنتظر الجيش ليلتقطها. لن أكون مُبالِغاً إذا قلت إنّ ثورة 25 يناير (2011) لم تغيّر شيئاً من هذا التصوّر، وإنّ أحداً من نُخَب السياسة المصرية "المدنية" لم يستطع أنّ يُقدّم تصوّراً لإعادة تخيّل السلطة لدى المصريين.
كانت أيام ثورة يناير الـ18 هي أعلى لحظات إحساس المصريين بذواتهم، وبتحقّقهم، وبقدرتهم في تنظيم أنفسهم. ورغم ذلك، كان الهتاف، منذ اللحظة الأولى لنزول الجيش، ومن دون توجيه أو تنسيق، "الجيش والشعب يد واحدة". انتشرت كمائن الجيش بعد انسحاب الشرطة المُهين، توقف العائدين من الميادين، وتتحدّث معهم عن خطورة ما يفعلونه على أمنهم وسلامتهم. ورغم ذلك، لم تتغيّر نظرة أغلب المتظاهرين الإيجابية إلى الجيش، أو إلى المتوقّع منه عند اللزوم. وقعت موقعة الجمل، ومرّت خيول الحكومة وجِمالها من بين جنود الجيش الذين "يُؤمّنون" مداخل الميدان، نجح بعض المُتظاهرين في القبض على الجِمال ورُكَّابها من بلطجية حسني مبارك، ولم يختلفوا ثانية واحدة في حتمية تسليمهم للجيش. الجيش الذي سمح لهم بالدخول، وسمح لهم بالهجوم، ثمّ سمح لهم بعد تسليمهم له بالهروب. نفّذ قادة المجلس العسكري بعد رحيل مبارك مذبحتَي منطقة ماسبيرو وشارع محمّد محمود في القاهرة، وماطلوا في تحديد موعد الانتخابات الرئاسية، ثمّ في إعلان النتيجة المعلومة بالضرورة، وبدقّة، بسبب الفرز في اللجان الفرعية. وفي أثناء ذلك وبعده، كان رهان قطاع كبير من النُخَب السياسية، وليس الإخوان المسلمين وحدهم، على الجيش وحده.
انتشرت قوّات الجيش في شوارع وميادين مصر في 30 يونيو/ حزيران 2013، وما بعدها، فاعتبر الإخوان المسلمون انتشارها حماية لشرعية الرئيس محمّد مُرسي، ورأى قطاع كبير من المتظاهرين انتشارها انحيازاً لما سمّوها "إرادة الشعب". أصدر المجلس الأعلى للقوّات المُسلّحة تحذيراً خشناً للطرفَين، فكان خطاب المنصّات في ميادين التحرير ورابعة العدوية والنهضة، وغيرها، يُشير إلى أنّ المقصود بالتحذير هو بالضرورة الطرف الآخر. أزاحت قيادات الجيش مُرسي وسجنته، ثمّ نفّذت انقلاباً تدريجياً على التجربة كلّها، على حكم "الإخوان"، وعلى جموع 25 يناير (2011)، و30 يونيو (2013)، وعلى مطالب الحكم المدني، والانتخابات الرئاسية المُبكّرة، وحتّى على خريطة الطريق التي تعهّدت بها. ورغم ذلك، ظلّ خيال الطرفَين المُتخاصمَين مُعلّقاً بالجيش. رَوَّجت أصوات داخل التيّار المدني أنّ ما حدث ليس انقلاباً، بل ثورة شعبية أو موجة من "يناير"، فيما رَوَّجت منصّة ميدان رابعة انشقاقاً في الجيش، وعودة مُرسي على رؤوس دبّابات الشرعية.
لم يتوقّف التعويل على تقدّم الجيش في محطات التراجع كلّها، التي صنعها قيادات نظام الثالث من يوليو (2013)، الذين هم قيادات الجيش، وكان أبرز نُكَاتِ العَشم الزائد انتظار الجيش لإنقاذنا من صفقة بيع جزيرتي تيران وصنافير، بلّ وترويج أنّه أنقذنا بالفعل، ونَصَبَ على المُشتري، وحصّل ثمن الصفقة ولم يُسلّم "البضاعة". ثمّ كان ما كان من تراجع في الملفّات كلّها، وتحوّلت حيوات المصريين جحيماً، وعذاباتهم روتيناً، ومعتقلاتهم "بلداً"، ومخاوفهم قارباً مثقوباً، فإذا بهم يصرخون طلباً للإنقاذ من الجيش (!)، وإذا بأصواتٍ تطالب بتدخّل الجيش، وأخرى تتوقّع البديل من الجيش، وثالثة تُبشّر بالقيادات الوسيطة... وهكذا.
لا تكمن المشكلة في الجموع، فالانتقال الديمقراطي في تجاربه كلّها مهمَّةُ النُخَب، فيما تمنح الجموع نُخَبَها أصواتَها ومن ثمّ الشرعية، أو أرواحها ومن ثمّ القدرة. ما يحدُث في مصر يُدلّل أنّ نُخبَاً غير مؤهّلةٍ للديمقراطية، وليس شعباً غير مؤهّل. والسبب، في ظنّي، هو العجز عن سبك تصوّر سياسي واقعي قابل للتنفيذ لما بعد الجيش في مصر، إذ لا سياسيين واقعيين في هذه المدينة، فإمّا عسكر أو حالمون. والنتيجة واحدة، وعادلة، مع الأسف.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان