موقف من التنوير الحكومي

08 مارس 2022

(يحيى الشيخ)

+ الخط -

التنوير الحكومي مصطلحٌ استخدمه نصر أبو زيد، رحمه الله، لوصف مثقفين حكوميين (في مصر) يتبنون آراء تنويرية في مبانيها، حكومية سلطوية في مراميها، فهم، في واقع الأمر، مع الحريات التي لا تنال من سلطة الدولة الاستبدادية، والإضاءات التي لا تقترب من مناطق نفوذ الحاكم، وحساباته السرّية في سويسرا. هو وأولاده (من المدافعين عن الدين) وأقاربه وأصحابه المهمين.
لم يكن وصف المثقف أو التنويري بـ"الحكومي" من قبيل الادّعاء أو الوصم، فقد استوفى أصحابه، في حينها، شروط التعيين الحكومي كافة، مناصب حكومية، في وزارات الدولة وأجهزتها الثقافية والإعلامية، مساحاتٍ ثابتة في صحف الدولة وإذاعاتها وشاشاتها، الأعلى مشاهدة والأكثر بروزا، في زمان ما قبل الصحف الخاصة والفضائيات، ناهيك عن تأييد هؤلاء التنويريين الرئيس الحالي، ووقتها كان حسني مبارك، والرئيس السابق، وقبل السابق، إلى ما لا بداية أو نهاية.
هل توقف التنوير الحكومي في عصر السماوات المفتوحة؟ الحقيقة أنه صار أكثر استبدادا. سيطرت الدولة على الفضائيات وما تسمى الصحف الخاصة سيطرتها على صحفها وقنواتها الحكومية القديمة، وباتت أكثر حدّة وحدّية وصرامة في اختيار من يمثلونها، سواء من المشايخ أو التنويريين. ولم يعد من هامشٍ يسمح بتمرير فكرة هنا أو تنفسيةٍ هناك، كما كان يفعل قدامى الحكوميين في زمان مبارك، ليتذرّعوا أمام قرّائهم، وربما أنفسهم، بأن التعاون مع الدولة وتمرير شيءٍ أفضل من لا شيء، وهو كلامٌ لا يخلو، أحيانا، من وجاهة. الآن، لا يوجد ما يمكن وصفه بخطاب تنويري، أو غير تنويري، غير موجّه. كل كلمةٍ.. كل حلقةٍ.. كل ظهور.. كل مشاركةٍ.. هي بالضرورة جزء من رؤيةٍ أمنيةٍ أوسع لتأليب المجتمع بعضه على بعض، وإلهائه حينا، وإنهاكه أحيانا أخرى في معارك عبثية.
ما الحل إذن؟ تنوير حكومي، بوصف نصر أبو زيد، زائفٌ، بوصف جلال أمين في كتابه "التنوير الزائف"، الذي تناول الجانب الثقافي (لا السياسي) من الظاهرة، ناهيك عن "نفور" أغلب طبقات المجتمع المحافظة من شكل الخطاب، وأداء أصحابه، خصوصا في مرحلة ما بعد عبد الفتاح السيسي، والتي تطلبت، وفقا لمعطياتها وإكراهاتها، مزيدا من الصفرية والحدّية والشعبوية في الخطاب، الأمر الذي وصل مع بعض الأصوات (إبراهيم عيسى وإسلام بحيري وأحمد عبده ماهر.. إلخ)، إلى ما يشبه خطابات الدواعش، ولكن على الطرف الآخر من الدائرة.
هل المنع هو الحل؟ يبرّر بعض المطالبين بالمنع، من دوائر من المفترض أنها تناضل من أجل الحريات والديمقراطية، بأن المعركة مع هؤلاء هي مع النظام بالأساس، وأن الضغط لإقصائهم أو سجنهم واستجابة النظام، للتهدئة، تعدّ انتصارا صغيرا، في مواجهة استبداد السلطة وداعميها من المثقفين المدّعين. كما أن هذا الخطاب يشوّه مفهوم التنوير لدى السواد الأعظم من المتابعين (وهي أحد وظائف التنويريين الحكوميين بالمناسبة) ويجعل من الصعب معاودة طرح هذه القضايا على الناس بشكلٍ جاد. وفي تقديري، ذهنية تبرير المنع هي نفسها التي أنتجت تبريرات الانقلابات العسكرية بديلا عن الحكم الديني، والسجن والاعتقالات والاختفاءات القسرية والتصفيات الجسدية بديلا عن مصير العراق وسورية، وتفويت بيع الأرض المصرية، وانتهاك الدستور غير مرّة، أبرزهم مدة حكم الرئيس، وتغييره بالعافية، وبناء أكبر جامع وأكبر كنيسة وأكبر سارية وأكبر أي حاجة في وقتٍ يشتكي فيه رأس النظام من أنه "مش لاقي ياكل أو يشرب أو يعالج أو يعلم" ذلك كله بديلا عن الانفلات الأمني، أو ثمنا للأمن والأمان والكباري (الجسور) ومساكن العشوائيات. لا يحل منع أي أحد أي مشكل، بل يزيده تعقيدا وتفاقما، وما دامت الأفكار قد ظهرت، سواء من منافذ الدولة آو غيرها، فإن مواجهتها "الحقيقية" لن تكون إلا بأفكار مثلها.
لقد راجت بعض أفكار التنويريين الحكوميين ووجدت من يصدّقها، على تهافتها وركاكتها، لأن "السوق عطشان"، والخطابات الدينية بائسة. والحل، إذا كان هناك من يبحث عنه، هو مزيد من الري، لا الجفاف.