موسم الانتقائية الأخلاقية

10 مارس 2022
+ الخط -

لا يشكّل العدوان الروسي على أوكرانيا اختلالاً في المعادلة الجيوسياسية، التي تشكّلت بعد نهاية الحرب الباردة، فقط، بل يربك، أيضاً، النسق الأخلاقي والقيمي الذي يحكم المواقف إزاء الأزمات الدولية الكبرى، ولا سيما تلك التي تتحوّل إلى حروب مدمرة ومكلفة. وقد فضحت الأزمة الأوكرانية، بشكل غير مسبوق، ازدواجية المعايير والتناقض بين القول والفعل عند الدول والمجتمعات ووسائل الإعلام والرأي العام.

شكّلت مواقف الدول الكبرى صدمة واسعة داخل الرأي العام العربي، فقد دانت بسرعة الغزو الروسي لأوكرانيا، وفرضت عقوباتٍ قاسية على موسكو، وقدّمت مختلف أشكال الدعم العسكري والسياسي والإنساني للحكومة الأوكرانية. أكثر من ذلك، أعلن بعض هذه الدول نيّتها فتح باب التطوع أمام مواطنيها للقتال مع الأوكرانيين في مواجهة الروس. وإذا كانت في ذلك كله قد استندت إلى القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فإنها لم تقابل التدخل الروسي في سورية بالموقف المبدئي والأخلاقي ذاته، وهو ما كان له دور في تعويم الأزمة السورية وانسداد آفاق حلها، من دون اكتراثٍ بمأساة ملايين السوريين التي كان للروس دور مفصلي في تحولاتها الدراماتيكية خلال السنوات الأخيرة. ومن المفارقة أنه حتى أوكرانيا، التي تتعرّض لعدوان روسي غاشم، لم تسلم من ازدواجية المعايير هاته، سواء في دعمها غير المشروط الكيان الصهيوني في سياساته العنصرية إزاء الفلسطينيين، أو في مشاركتها، قبل سنوات، في التحالف الدولي للحرب على العراق.

في السياق ذاته، أخفقت وسائل إعلام غربية في إخفاء عنصريتها وانحيازها الأخلاقي، حين اعتبرت أن الأوكرانيين لا يستحقون ما يحدُث لهم بسبب انتمائهم الثقافي الأوروبي، فهم ليسوا أفغاناً أو عراقيين أو سوريين. وبالتالي، فمقدار الحفاوة بهم، بوصفهم لاجئين، يجب أن يكون عاليا وفي مستوى هذا الانتماء، علما أن الغرب يقف، بدرجةٍ أو بأخرى، خلف ما تعرّضت له أفغانستان والعراق وسورية وغيرها من تدمير ممنهج. كان ذلك سقوطاً أخلاقياً مدوياً. واللافت أنه قوبل بغير قليل من عدم الاكتراث في الغرب، وكأنه إقرارٌ ببديهيات وحقائق موضوعية، علينا، في العالم الثالث أن نعِيَها جيداً. فاللاجئون العرب والآسيويون والأفارقة لا يحق لهم أن يحظوا بالقدر نفسه من ''التعاطف الإنساني'' الذي يحقّ للأوروبيين ''البيض''، حين يتعرّضون لمحنة بحجم محنة الأوكرانيين. لقد شهدت المنطقة العربية حروباً ونزاعاتٍ ذهب ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين العزّل، في فلسطين والعراق والصومال وسورية ولبنان واليمن وليبيا. وعلى الرغم من التوثيق الذي واكبها، إلا أنها لم تلقَ ما تلقاه الآن جرائم الجيش الروسي بحق المدنيين الأوكرانيين العزّل. إنه شعورٌ بالغبن والحيف ينتابنا ونحن نرى كيف انبرى إعلاميون ومثقفون غربيون لإدانة جرائم الروس في أوكرانيا، والاستفاضة في تفكيك جذور النزعة التوسّعية الروسية في البلطيق وآسيا الوسطى والقوقاز، في وقتٍ تُقابَل فيه المجازرُ الإسرائيلية بحق الفلسطينيين بتجاهلٍ إعلامي فجٍّ يفضح عنصرية الغرب ''المتحضّر''، ونفاق نخبه ووسائل إعلامه.

في المقابل، لا يعني ذلك كله أننا أفضل من الغرب في التعاطي مع المفارقات الأخلاقية التي انطوت عليها محنة الأوكرانيين. بل على العكس، قدّم طيفٌ عريضٌ من نخبنا والرأي العام صورةً لا تقل سفاهةً عن نخب الغرب ورأيه العام. فلم يتردّد يساريون وقوميون وإسلاميون في تمجيد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، واعتباره تصحيحاً للتاريخ، وخطوةً شجاعة لمجابهة التغوُّل الإمبريالي الغربي، في خطابٍ لا يخلو من مشاعر التشفّي والشماتة بمعاناة الأوكرانيين بسبب دعم حكومة بلادهم السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وإذا كان بعض هؤلاء يتوخّى من ذلك تجنّب السقوط في التناقض مع موقفه المؤيد للتدخل الروسي في سورية والمنحاز إلى ''محور المقاومة'' الذي يمثله نظام بشار الأسد، فإن بعضاً آخر كان أكثر رداءة في استخفافه بمحنة الأوكرانيين، والتشديد على ضرورة الوقوف مع روسيا، نكايةً، فقط، بالولايات المتحدة والغرب.

The website encountered an unexpected error. Please try again later.