أفقٌ جديدٌ لفلسطين بعد قرار ''العدل الدولية''
أصدرت محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/ تمّوز الجاري قراراً اعتبرت فيه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المُحتلّة في 1967 ''غير قانوني''، و''ينبغي إنهاؤه بسرعة''. واعتبرت، أيضاً، أنّ سياسة الاستيطان التي تنتهجها إسرائيل، منذ أكثر من خمسة عقود، تتعارض مع القانون الدولي، بما يُشير إليه ذلك من ضرورة إزالة المستوطنات التي أقامتها وتعويض الفلسطينيين المتضرّرين من ذلك.
وعلى الرغم من أنّ قرار المحكمة يبقى استشارياً وغير ملزم، إلّا أنّه لا ينبغي التقليل من أهميته القانونية والسياسية في المنظور البعيد. فللمرّة الأولى تُصدِر هيئة قضائية دولية قراراً تنتصر فيه للشعب الفلسطيني، وتُقرّ بحقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة في حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشريف. أكثر من ذلك، نسف القرارُ الأسسَ والمُسوِّغات التي تتوسّل بها دولة الاحتلال لتبرير احتلالها الأراضي الفلسطينية، وهو ما يعني وضع النظام الدولي، وتحديداً الأمم المتّحدة بمختلف أجهزتها التقريرية والتنفيذية، أمام مسؤوليّاتها، فهناك حاجة ماسّة لإصلاحها بعد أن كشفت حرب غزّة عجزها، في ظلّ هيمنة الدول الغربية الكبرى على هياكلها، وتوفيرها الغطاء لحرب الإبادة التي تشنّها دولة الاحتلال على سكّان القطاع.
لا يخلو توقيت القرار من دلالة، فقد جاء في سياق الانعطاف المتنامي للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المُتطرّف، بشقّيه، الدِيني والقومي، وتزايد مظاهر العسكرة فيه، وإقدام دول أوروبية وازنة على الاعتراف بدولة فلسطين، من دون القفز بالطبع على الارتجاج العميق الذي أحدثته حرب الإبادة على قطاع غزّة في الضمير العالمي، أمام الانحياز السافر للدول الغربية الكبرى لدولة الاحتلال. وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ قرار المحكمة ما كان ليصدُر لولا هذه الشروط الموضوعية، التي وضعت المحكمة أمام اختبارٍ أخلاقي وقانوني عسير.
كشفت الأشهر التسعة المنصرمة الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، دولةً عنصريةً خارجةً عن القانون. فلم يعد قادتُه يجدون أدنى حرج في إعلان رفضهم قيام دولة فلسطينية مُستقلّة، يرون فيها مصدرَ تهديدٍ وجودي لدولتهم اليهودية الخالصة، وليس خطوةً أساسيةً تُنهي الصراع وتُحِلُّ السلام في المنطقة. وقد كان لافتاً للغاية إصدارُ الكنيست الإسرائيلي، الذي يُفترض أنّه يمثّل ''الشعب الإسرائيلي'' بمختلف مكوّناته، قراراً يرفض فيه إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يُؤكّد أنّ إقامةَ دولة يهودية خالصة، في كامل تراب فلسطين التاريخية، يظلّ توجّها استراتيجياً داخل إسرائيل دولةً ونُخباً ومجتمعاً.
قد يكون صدور قرار "العدل الدولية" في هذا التوقيت مقدمةً لتساقط قطع "الدومينو"، مع ما يعنيه ذلك من تعميق الأزمة الوجودية التي يمرّ منها الكيان الصهيوني؛ ذلك أنّ القرار سيشجّع دولاً أخرى على الاعتراف بدولة فلسطين، كما أنّه سيوسّع قاعدة المُؤيّدين للحقّ الفلسطيني في البلدان الغربية، لا سيّما تلك التي تُعَدُّ حليفةً تقليديةّ لدولة الاحتلال (الولايات المتّحدة، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا...). يُضاف إلى ذلك، أنّ القرار يفتح أفقاً جديداً أمام المُنظّمات والجهات والشبكات العابرة للحدود، التي تنشط في واجهة مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية عليها. كما أنّ ذلك كلّه، قد يكون له تأثير في توجّه المحكمة الجنائية الدولية في ما ستُصدره من قرارات بشأن حرب الإبادة في قطاع غزّة.
من هنا، لا ينبغي التقليل من أهمية قرار محكمة العدل الدولية في خضمّ الديناميات الجديدة التي تشهدها القضية الفلسطينية منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لقد كشفت الأحداثُ العنصريةَ المتجذِّرةُ في اللاوعي الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني، وحزامُ الحماية الذي يوفره الدعمُ الأميركي، والغربي عموماً، لدولة الاحتلال أنه قد لا يصمد في المدى البعيد إذا ما نجح الطرف الفلسطيني في استخلاص العائد السياسي لهذه المحطّة المفصلية في الصراع، وإعادة بناء سرديته وتقديمها إلى الرأي العام العالمي.
دفع سكّان قطاع غزّة أثماناً باهظةً جدّاً من دمائهم وأرواحهم، وسيكون مُحبطاً أن تذهب تضحياتهم هاته سدىً. لذلك، تستدعي المصلحة الوطنية الفلسطينية مصالحةً عاجلةً تقفز عن الحسابات الفكرية والحزبية والشخصية، وتستحضر مصلحة الشعب الفلسطيني أولاً وأخيراً.