منظومة العدالة الغائبة وقضية المجتمع المدني في مصر
لم نكن نحتاج إلى 13 عاماً لتبرئة نشطاء في حقوق الإنسان في مصر، ظلّوا محل اتهام طوال هذه المدة، بإعلان أنه لا وجه لإقامة الدعوى ضد المجموعة الأخيرة من تلك المنظمات ومسؤوليها في تلك القضية، والتي اتهم فيها العشرات من منظّمات المجتمع المدني في القضية 173 لسنة 2011 والمعروفة باسم قضية التمويل الأجنبي. ولعل هذا الملف من القضايا القليلة التي أخذت كل هذا الوقت الطويل في تاريخ القانون في مصر من دون إحالة إلى القضاء ليقول حكمه فيها، والتي دخلت فيها عدّة أبعاد مختلفة يتماسّ فيها القانوني مع السياسي لنظام ما بعد ثورة يناير، لتعكس رغبة في تصفية للحسابات مع المجتمع الحقوقي، بسبب دوره المهم في الدفاع عن قضايا الحريات قبل الثورة.
ويعكس ذلك ملاحظة أساسية في الواقع المصري، وتتعلق بتراجع منظومة العدالة وانهيارها في السنوات الأخيرة، خاصة في ما يتعلق بغياب الفصل بين السلطات وسيادة السلطة التنفيذية على ما عداها. والواضح لكل الأطراف ذات العلاقة بهذه المنظومة من المحامين والصحافيين والمنظّمات المستقلة، وهو ما يظهر في استمرار حبس عشرات الآلاف من سجناء الرأي واستمرار ظواهر استثنائية، مثل الحبس الاحتياطي المطول، والتدوير من دون محاكمات قضائية، وغياب الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة.
وتسترعي الانتباه عدة ملاحظات متعلقة بهذا القرار، أهمها التوقيت الذي أُعلن فيه هذا القرار، والذي يتصل بعقد اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي لتمويل بعض المشاريع في ملفَّي الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا ومكافحة الإرهاب. والظن أن القرار ما جاء إلا لتلافي الانتقادات الأوروبية تجاه هذه القضية، سواء في شقها المتعلق بالمتّهمين الأجانب، والذي ألغي حكم قضائي بالحبس في حقهم خلال مرحلة النقض لاحقاً عام 2014، أو في ما يتعلق بالشق المصري، خاصة أن هذه القضية كانت مثاراً دائماً لملاحظات الاتحاد الأوروبي في أثناء إثارة الملف الحقوقي المصري أمام الآليات الدولية لحقوق الإنسان.
ملاحظة أساسية في الواقع المصري، تتعلق بتراجع منظومة العدالة وانهيارها في السنوات الأخيرة
الملاحظة الأخرى أن هذه القضية كانت محلاً لصداع مزمن في رأس النظام، خاصّة أن من غير المنطقي أن تظل مفتوحة طوال هذه السنوات، من دون إحالتها إلى المحاكمة، وهو ما لن يكون مفيداً للنظام في ظل توجه عدة منظمات حقوقية إلى العمل من الخارج، وبقاء أقلية منها في الداخل، والتي يتم الضغط عليها دائماً.
كما يثير هذا القرار المتأخّر عدة أسئلة أهمها: من يتحمّل مسؤولية التشويه الإعلامي المتعمّد لهؤلاء النشطاء طوال هذه السنوات؟ في ظل تجميد وضعهم القانوني، واتخاذ عدة إجراءات قضائية ضدهم، ومنها المنع من السفر والتحفّظ على أموالهم، وهو ما يعني حرمانهم مع أسرهم من مواردهم الشخصية، بالإضافة إلى إجبار عشرات الحقوقيين الآخرين على الخروج من مصر، بسبب الوضع السيئ الذي وصلت إليه حالة الحقوق والحرّيات خلال السنوات الأخيرة.
هل يعني هذا القرار حدوث تغيير إيجابي في الموقف الرسمي في مصر تجاه هذه المنظمات، وفي القلب منها العاملة في المجال الحقوقي؟ الإجابة بالنفي، لوجود عوامل أخرى تقف دون حدوث هذا التغيير، وأهمها: استمرار المناخ والقوانين المقيدة لهذه المنظّمات من جمعيات ومؤسّسات أهلية، بدءاً بالحق في التأسيس، وانتهاء بالتدخل الأمني والإداري في شؤونها، ثم تردّي حالة حقوق الإنسان على كل الصعد، سواء في ما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بدءاً من الحريات الشخصية وحرية التنظيم والرأي والتعبير وتقييد وسائل الإعلام وحجب المواقع والحقّ في التجمع السلمي، وانتهاء بالحقّ في العمل والتعليم والسكن والصحة. وبالرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على إصدار الاستراتيجية لحقوق الإنسان، إلا أن شيئاً لم يتغير على هذا الصعيد إلا بعض خطوات شكلية من دون القيام بإصلاح حقيقي في منظومة القوانين الجزائية والعقابية.
نجحت الإدارة المصرية في دفع أشخاص مقرّبين منها إلى إنشاء منظّمات أهلية ودعمها بكل السبل المادية والسياسية
ويمكن القول إن الإدارة المصرية قد انتهجت أساليب أخرى لإضعاف هذه المنظّمات، أهمها: إيجاد مجتمع مدني موازٍ موالٍ للنظام من خلال تشكيل ما يسمّى "التحالف الأهلي التنموي الوطني"، وإنشاء منظّمات حقوقية جديدة تدين له بالولاء واستيعاب بعض المنظّمات القديمة لتكون مهمتها الرئيسية الدفاع عن سلوك النظام في المجال الحقوقي في الداخل والخارج، بتقديم تقارير موازية تشير إلى ما تسمّيه النهج الإيجابي للدولة، خصوصاً عند مناقشة التقارير الوطنية في مجال الحقوق المدنية والسياسية ومناهضة التعذيب وعرض التقرير الرسمي أمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان، بل استخدامها كذلك في مراقبة الانتخابات البرلمانية والرئاسية بإصدار تقارير تدافع عن مسار أجهزة الدولة في هذه الانتخابات، وتأكيد نزاهتها، بالرغم من كل الانتهاكات التي تقوم بها تلك الأجهزة باستبعاد المرشّحين الجادين من الترشّح، وهو ما حدث في الانتخابات السابقة منذ عام 2014. كما نجحت في دفع أشخاص مقرّبين منها إلى إنشاء منظّمات أهلية ودعمها بكل السبل المادية والسياسية، واختيارها في المجالس القومية لحقوق الإنسان وعضوية لجان معينة، مثل لجنة العفو الرئاسي أو الحوار الوطني، واختيارها كذلك في قوائم عضوية مجلسي النواب والشيوخ. ويتضح من خلال ذلك وجود توجّه إلى صنع نخبة بديلة لتلك المنظّمات التي تمارس عملها بشكل حقوقي واحترافي ومستقل.
كما حدث استيعاب لأهم المنظمات العاملة في هذا المجال، وكذلك المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي يختار أعضاءه مجلس النواب، ويسيطر عليه تحالف الأحزاب المقرّبة من الدولة، ويتأكد ذلك من متابعة دقيقة لتقارير تلك المنظّمات السنوية التي تراجع تقييمها كثيراً، وكانت عند صدورها محلّاً لاهتمام كبير من الرأي العام لما كانت ترصده من انتهاكات، وهو ما حدث بآليات الاستيعاب ذاتها.
لكل هذه الأسباب، من غير المتوقّع أن يحدث تغيير في موقف أجهزة الدولة المصرية من قضية استقلال منظمات المجتمع المدني، وفي القلب منها المنظّمات العاملة في المجال الحقوقي.