مشروع قانون مصري بين فلسفتَي الصدمة والمباغتة
في وقت تزداد المطالبُ بتعديل مواد الحبس الاحتياطي في القانون المصري لحلّ مشكلة الحبس المطوّل، الذي يصل إلى سنواتٍ من دون إحالة إلى المحاكمة، وفي ظلّ مناقشات ذلك في ما يُسمّى "مجلس أمناء الحوار الوطني"، انتهت اللجنة التشريعية في مجلس النواب من إقرارِ مشروعٍ كاملٍ لقانون الإجراءات الجنائية، في غياب المجلس عن الانعقاد. وبالرغم من اعتراضات كثيرة بشأن القانون، الذي يتضمّن نحو ما يزيد على 500 مادّة.
وتتناول نسخة المشروع إجراءاتٍ مفصّلةً للتعامل مع المواطن في حال تعرّضه لاتهامات جنائية في أيّ قضية، وتتضمّن إجراءات غايةً في الخطورة، بدءاً من أوامر القبض والحبس الاحتياطي، وانتهاءً بإصدار الأحكام، وطرق الطعن. كما تنظّم العلاقة بين أطراف مُتعدّدة يرى كلّ منها أنّه الأقوى، وتعكس الفلسفة التي تتبنّاها الدولة تجاه هذه الأطراف كلّها، بدءاً بجهاز الشرطة، الذي يتبع السلطة التنفيذية ويأتمر بأوامرها، ويُعدّ الوجه القسري لها. مروراً بالنيابة العامّة، التي تمثّل سلطةَ المجتمع نظرياً. وانتهاءً بالقضاة، الذين يصدرون الأحكام التي تصل حتّى المساس بالحقّ في الحياة. وأخيراً المحامون، وهم من يُؤدّون رسالتهم في الدفاع عن المتّهمين والمجني عليهم، ويوصلون صوتهم إلى السلطة القضائية. ويضع الدستور الخطوط العامّة لممارسة كلّ طرف من هؤلاء دوره، ولكن تظلّ القوانين المختلفة وتطبيقها المرجعيةَ، حتّى لو تناقضت مع نصوص الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
عملياً، بالرغم من أن القضاء هو العنصر المهمّ في هذه المنظومة باعتباره من يصدر الأحكام في النهاية، ثمّ النيابة العامة، إلّا أنّ دور الأطراف الأخرى، وبشكل خاص جهازي الشرطة والأمن الوطني، يظلّ أقوى عملياً، خاصّةً في ضبط المتّهمين والإحالة إلى النيابة، قبل أن يقول القضاء كلمته. وطبقاً لنظرية "الهرم المقلوب"، يأتي هذان الطرفان في المُقدّمة، يليهما القضاة في المرتبة التالية، ثمّ المحامون في المرتبة قبل الأخيرة، وأخيراً المواطن مُجرَّداً من الحقوق التي تنظّمها القوانين المختلفة، وتضمن له محاكمةً عادلةً، وتعكس المبادئ التي قرّرها الدستور، ومنها قرينة البراءة، والحقّ في الحرّية والأمان الشخصي، وسرعة إحالة المتّهم إلى محكمة مستقلّة ومنصفة، تضمن الحقّ في الدفاع، وبشكل خاص للمحامين الذين يُفترَض أن يكونوا طرفاً مساوياً للنيابة العامّة على المستوى النظري.
هناك تراجع لاستقلالية النيابة العامّة والقضاء، خاصّة في ضوء التعديلات التي أُدخِلت على دستور 2014، وأعطت رئيسَ الجمهورية الحقّ في تعيين رؤساء هذه الهيئات القضائية
ومن هذا المشروع، يبدو أنّ الإدارة المصرية باتت تتبنّي مبدأ "الحرب خدعة"، واتباع سياسة الصدمة والمباغتة مع المجتمع، وهو ما يُثير عدداً من علامات الاستفهام، أهمّها السرعة غير المفهومة في توقيت عرض مشروع بهذه الخطورة في وقت محدود، ومن دون مناقشةٍ من جانب الأطراف المختلفة، وتعريف الرأي العام والمواطنين بمواده، ومن دون مناقشته في ظلّ غياب جلسات مجلس النواب.
ويبدو أنّ إقرار اللجنة المشروع بشكل عاجل يُمهّد لعرض الأمر سريعاً فور انعقاد مجلس النواب في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ويعكس حجم الانتقادات الموجّهة من اللجنة التشريعية ضدّ وجهات نظر الأطراف الأخرى، خاصّة نقابتَي المحامين والصحافيين، ووصلت إلى إلقاء الاتهامات، عدم احترام هذه اللجنة الاختلاف، ومحاولات إرهاب المختلفين، وهو ما يثبت الموقف المنحاز لهذه اللجنة، ويغيّب دور المجلس القومي لحقوق الإنسان، المؤسّسة الوطنية المُكلّفة بمناقشة التشريعات التي تتعلّق بضمانات المحاكمة العادلة بموجب القانون المؤسّس له.
على المستوى العملي، عكس القانون فلسفةً تستهدف العصف بالجوانب الإيجابية المحدودة في القانون الحالي، من خلال اقتناص النيابة العامة صلاحيات قاضي التحقيق لنفسها، وإمكانية تكليف النيابة رجال الضبط القضائي سلطات من اختصاصها، منها استجواب المُتّهمين، وتفتيش الشرطة المساكن في حالة وجود خطرٍ، من دون تعريف ماهية هذا الخطر. وما يزيد الأمر سوءاً أنّ هذا المشروع يأتي في ظلّ تمتّع النيابة العامّة بصلاحيات هائلة، منها التحقيق والاتهام والإحالة، وإمكانية إصدار أوامر تحفّظية بالمنع من السفر والتحفّظ على الأموال، في غياب الرقابة على هذا الدور إلّا بشكل شبه محدود، بالرغم من الدعوات المستمرّة من القانونيين المصريين للفصل بين سلطتَي التحقيق والاتّهام، وإعمال نظام قاضي الحبس.
المتوقع استمرار ظاهرة الحبس الاحتياطي في ظل مشروع قانون الإجراءات الجنائية حال إقراره، وإجهاض أيّ ضمانات للمحاكمة العادلة
السؤال المُهمّ هنا يتّصل بمدى استقلال النيابة العامّة جهازاً له صلاحيات قضائية في ضوء تبعية أعضاء النيابة للنائب العام، وهو الذي يملك صلاحيات الإشراف والإدارة والرقابة، وتبعية النيابة ككلّ إلى وزارة العدل إدارياً، وتمتّع نيابة أمن الدولة بصلاحيات كبيرة بموجب قانون الإرهاب، وغيره من القوانين. من جانب آخر، هناك تراجع لاستقلالية النيابة العامّة والقضاء، خاصّة في ضوء التعديلات التي أُدخِلت على دستور 2014، وأعطت رئيسَ الجمهورية الحقّ في تعيين رؤساء هذه الهيئات القضائية، وقبلها تعيين أعضاء النيابة العامّة ورجال القضاء، ودور وزير العدل في انتداب القضاة، وتوزيعهم بين الدوائر المختلفة. ويثير الدور الخاص باختبار أعضاء النيابة ورجال القضاء قبل تعيينهم أمام لجنة خاضعة للمؤسّسة العسكرية، أسئلةً أخرى عن تراجع هذا الاستقلال.
فيما يتعلّق بالمواد الخاصّة بالحبس الاحتياطي، لم يُقدّم المشروع أيّ تعديلات جوهرية في هذا النظام، بدءاً من شروط توقيع هذا الإجراء، مروراً بالبدائل الموضوعة لهذا الحبس، ولم يعالج ظاهرة التدوير على قضايا مختلفة، باستثناء وضع نظام صعب التطبيق للتعويض عن الحبس.
أخيراً، يبدو المشروع في وضعه الحالي محاولةً لخلق قواعد جديدةٍ في منظومة العدالة تسيطر عليها السلطةُ التنفيذيةُ، التي باتت الطرف الأقوى، بحكم هيمنتها على المؤسّستَين التشريعية والقضائية، وتتاح السيطرة فيها للنيابة العامّة، ومن خلفها الأجهزة الأمنية، وتضيف مزيداً من القيود إلى دور المحامين نظرياً بعد تقييدهم عملياً، فباتوا لا يستطيعون ممارسة الحدّ الأدنى من دورهم في الدفاع. ويمكننا أن نتوقّع استمرار ظاهرة الحبس الاحتياطي المطول في ظلّ هذا المشروع في حالة إقراره، وإجهاض أيّ ضمانات متبقّية للمحاكمة العادلة، وهو ما يتطلّب الوقوف ضدّ هذا المشروع بالأشكال كافّة، وممارسة الضغوط الممكنة للحؤول دون إقراره.