ملاعب كرة لا ساحات صراع حضارات
اثنان من المشجعين الانجليز قفزا للتوّ من العصور الوسطى، ليقفا على أبواب أحد ملاعب المونديال في قطر بكامل أزياء الحروب الصليبية، سيف ضخم في غِمده، وصليب بالحجم الكبير على الظهر، في مشهد مستدعى من حقبة تاريخية مظلمة، لم يكن ينقصه سوى الخيل والموسيقى العسكرية.
بعد نقاش سريع وهادئ، صرف رجال الأمن القطريون المشجعيْن المسكونيْن بهواجس الغزو الصليبي بهدوء، ومنعتهما من الدخول إلى مدرّجات ملاعب مونديال يقام في دولة عربية مسلمة، تحترم تاريخها ومعتقداتها وقيمها، وقبل ذلك تحمي البطولة الرياضية من هلوسة صراع الحضارات والثقافات التي تندلع على جوانب المونديال.
لا يمكن بأي حال اعتبار ما أقدم عليه المشجّعان الانجليزيان من أشكال حرية التعبير، أو من ألوان الاعتزاز بالطقوس الفلكلورية، وبالتالي، لا يمكن لصاحب عقل أو ضمير أن يصف رد فعل رجال الأمن القطري بأنه مصادرة أو تقييد لحرية الجمهور، بل أنهم كانوا لطفاء بشكل زائد عن اللازم مع مسلكٍ شديد القبح في عنصريته وعدوانيته وإهانته مشاعر مئات الملايين من شعوب الدول العربية التي اكتوت بنيران حروب الغزو الصليبية قبل قرون.
لك أن تتخيّل أن المشجّعيْن الانجليزيين نجحا في التسلل إلى مدرّجات جماهير المونديال بهذه الهيئة الصليبية الكاملة، فماذا كان من الممكن أن تأتي رد فعل الجمهور العربي المسلم الجالس في المدرجات ذاتها؟. أي استفزاز من الممكن أن يكون أكثر من ذلك، وهل هناك معنىً آخر للتحرّش الحضاري أكثر من تصرّف المشجعيْن الانجليزيين؟.
في السياق الاستفزازي ذاته، وفي إطار الإصرار على إبداء احتقار قيم البلد المضيف وأخلاقياته، لا يمكن تجاهل ما أقدمت عليه وزيرة الداخلية الألمانية تعبيرًا عن اعتزازها بقيم جمهور المثلية الجنسية وأخلاقياته، أو ما فعله لاعبو منتخب ألمانيا بوضع الأيدي على الأفواه، احتجاجًا على قرار معاقبة قادة الفرق التي ترتدي الشارة الملوّنة بالبطاقة الصفراء.
يبدو من هذه الإشارات الألمانية أن الرغبة في الاستفزاز والإصرار على إهانة مشاعر الجماهير العربية الرافضة المثلية، والإساءة لقيمها ومعتقداتها، هي الدوافع الحقيقية وراء هذه السلوكيات، وليس الانحياز لمعتقدات مجتمع المثليين أو الإيمان بها والدفاع عنها، وإلا لما باعوا القضية مقابل حفنة كروت صفراء، كما علّق الساخرون، بما يؤكد أن قضية المثلية ليست عندهم الغاية من هذا النضال المثير للسخرية، وإنما هي وسيلة أو من أدوات ممارسة الاستعلاء والرفض العاجز لتقبل حقيقة تقول إن دولة عربية تفوّقت على الذين سخروا من فوزها بملف تنظيم كأس العالم.
الشاهد أن عقلية الرجل الشمالي الأبيض، وتابعيه من الدونيين بيننا، لا تريد أن تغادر وهم التفوّق والتميز الذي يرى الآخرين في دول جنوب الحضارة الاستعلائية مجرّد جمهور يمارس فقط فعل الانبهار والتأثر بكل ما يأتي من الشمال، غير مسموحٍ له بالتفكير في محاولة أن يكون مصدرًا للإبهار والإعجاب، فقط يبقى مستهلكًا مستقبلًا منتجات الحضارة العجوز الشائخة.
هذا الإمعان في محاولة فرض مفاهيم وأفكار بالإلحاح والابتزاز المقصود منه صرف الانتباه عن تفوّق رياضي مذهل في استضافة المونديال وإدارته، وتصوير الأمر وكأننا بصدد صراع حضارات ونزال ثقافات، تؤجّجه بعض ردّات الفعل المبالغ فيها والتي لا ترى، هي الأخرى، المونديال إلا بوصفه ميدانا للدعوة والتعريف بالدين الإسلامي، بما يُخرج المناسبة عن إطارها الحقيقي، وهو أن 32 دولة تمثل قارات العالم كله تتنافس فيما بينها على أرضٍ عربيّة، للمرة الأولى في التاريخ، من أجل الفوز بكأس العالم لكرة القدم.
على ذلك، يكون التقييم، في نهاية المطاف، على أساس النجاح في تسيير مسابقةٍ بهذا الحجم والأهمية، وفق معايير تتعلق بمستوى التنظيم والإعاشة وسهولة التنقل والحركة، وحسن ضيافة ملايين المشجّعين القادمين من كل الدول للاستمتاع بلعبةٍ جميلةٍ، هي الأولى من حيث الشعبية، وهذا ما نجحت فيه قطر بامتياز منذ اليوم الأول.
مرّة أخرى، نحن في قلب منافسات كروية عالمية، لا منازلات عقدية وسجالات فكرية، ولا نريد أن يقام المونديال وينفضّ ونحن غارقون في السؤال: من اختطف الكرة من أقدام اللاعبين إلى أفواه الدعاة والمبشّرين؟