مقتل أيمن هدهود .. سيناريو متكرّر وأسئلة بلا نهاية
فتح مقتل الباحث الاقتصادي المصري، أيمن هدهود، الباب لعشرات الأسئلة التي تردّدت صداها على وسائل التواصل الاجتماعي من عائلته وأصدقائه ومنظّمات حقوق الإنسان، وتكرّر هذه الواقعة سيناريوهات سابقة كان القاسم المشترك فيها قوات الأمن المصرية، منها قتل الشاب خالد سعيد على إثر تعذيبه، وكان مقتله أحد أسباب احتجاجات ثورة 25 يناير (2011)، والعثور على الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، مقتولاً تحت تأثير التعذيب في أحد أطراف القاهرة في يناير/ كانون الثاني 2016، وهو ما كان محلاً لتحقيق إيطالي ما زال مستمراً.
قُبض على أيمن هدهود في أوائل فبراير/ شباط الماضي، وعرفت أسرته بنبأ احتجازه في أحد مقارّ الأمن الوطني في القاهرة، حيث أخبروا أنّه سيخرج خلال يومين. وعلى الرغم من ذلك ظل مصيره غير معروف شهرين، جرى فيها إيداعه مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، وعرفت أسرته في أوائل شهر إبريل/ نيسان الحالي بطريق غير رسمي نبأ وفاته في المستشفى في الخامس من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، رغم إنكار النيابة في البداية اتهامه في أيّ قضية.
ثمّة غموض في الواقعة التي قبض على أيمن هدهود بشأنها
وبعد إثارة الواقعة إعلامياً، أصدرت وزارة الداخلية بياناً بأن القبض عليه بسبب بلاغ من حارس أحد العقارات بمحاولته اقتحام أحد المنازل، ومناداته باسم إحدى السيدات، إذ عرض على النيابة التي وجدت حالته النفسية غير متّزنة وثمة صعوبة في استجوابه، فحوّلته إلى المستشفى، وأصدرت النيابة العامة بياناً في 12 إبريل/ نيسان يؤكد سيناريو اهتزاز الحالة النفسية لهدهود، واحتمالية وفاته بسبب اصابته بفيروس كورونا! الأمر الذي لم يثبت في أي تقرير طبي، ثم صدر بيان ثانٍ بعدها بأيام ينفي وجود آثار عنف جنائي بعد تشريح القتيل وانتفاء الشبهة الجنائية، مشيرة إلى احتمالية وفاته بسبب مرض مزمن في القلب! ومن الواضح حجم التضارب الظاهر في أسباب الوفاة، فضلاً عن تدوين تاريخ إصدار شهادة وفاته في 11 إبريل/ نيسان، بعد واقعة الوفاة بـ 35 يوماً.
ولم تجب البيانات الرسمية على هذه التساؤلات، بل زادتها غموضاً، كما أضافت أسئلة جديدة تؤيد وجود سيناريو آخر سعت كل الأجهزة إلى طمسه والتغطية عليه، خصوصاً لتعلقه بأداء الأجهزة الأمنية مع المحتجزين، وهو ما سبق أنّ وثقته تقارير حقوقية مصرية ودولية أشارت إلى أنّ التعذيب في مقارّ الاحتجاز يُمارس بشكل منهجي، ومن هذه الأسئلة المهمة:
ـ التضارب الواضح في مضمون الاتهام الموجّه إلى هدهود، بين محاولة اقتحام منزل، بينما سبق إخبار الأسرة بوجود اتهام بسرقة سيارة في محافظة أخرى. والسؤال، ما علاقة الأمن الوطني بهذه الوقائع، حيث تقتصر وظيفته في القضايا ذات الطابع السياسي وقضايا الإرهاب، بينما تختص المباحث الجنائية بالوقائع الأخرى، إلا إذا كان لاحتجازه غير القانوني خلفيات أخرى، منها آراؤه الخاصة على "فيسبوك" أو عضويته في الهيئة العليا لحزب الإصلاح والتنمية الذي يرأسه النائب السابق محمد أنور السادات.
باب التكهنات حول وفاة هدهود سوف يظل مفتوحاً، ولن تغلقه بيانات النيابة العامة بمحاولة تبرئة الأجهزة الأمنية من أي اتهامات
ـ تشير بيانات النيابة العامة إلى تأكيد أشقائه سابقة تعرّضه لحالات اهتزاز نفسية وعصبية مرتين في أماكن عامة، ولم تتضمّن هذه الوقائع أي شهود آخرين أو أوراق طبية أو محاضر رسمية، كما أن أصدقاء كثيرين مقرّبين نفوا ذلك. والسؤال هنا: ما الذي يضمن لنا عدم تعرّض الأسرة لأي ضغوط أو تهديدات للإدلاء بهذه الشهادة، خصوصا أنهم أكدوا شكوكهم في تعرّض شقيقهم للتعذيب.
ـ هناك غموض في الواقعة التي قبض على أيمن هدهود بشأنها، في عدة نواحي، فمن هي السيدة التي كان ينادي باسمها محاولا دخول منزلها؟ ولماذا لم تظهر في الصورة شاكية؟ وما علاقتها بـهدهود؟ ولماذا لم تظهر صورة محضري التحرّيات وتحقيق النيابةظ ولماذا لم تتضمّن بيانات النيابة العامة أي إشارة إلى رقم هذا المحضر؟
ـ لماذا لم يجر تعريف الأسرة بعرض هدهود في مكانه، وموعد تحقيق النيابة العامة معه، لكي يقوموا بزيارته وتدبير محامٍ له، وهو الأمر الواجب قانوناً في مثل هذه التحقيقات. ولماذا حاولت المستشفى استصدار أمر بدفن "القتيل" في مقابر الصدقة، والتي يدفن فيها المجهولون، رغم وجود محضر يتضمّن بياناته الرسمية؟ ما الذي تخفيه الأجهزة الأمنية ولا تريد لأحد أن يراه؟
ـ الأمر الآخر أن أحد أشقائه أشار إلى وجود كسر في الجمجمة، وعلاماتٍ على الساعد بعد مشاهدة الجثة. ومع ذلك لم يشر تقرير الطب الشرعي إلى أيٍّ من هذه الإصابات، والتقطت الأسرة صور للجثمان، ومورست ضغوط عليهم من العاملين في المستشفى لمسحها! فما الذي تخفيه تلك الصور حتى يجرى إجبارهم على مسحها؟ وتزيد الأمر ارتياباً إشارة بيان لاحق لمنظمة العفو الدولية يتناول الواقعة إلى وجود صور جرى تسريبها فعلاً وعرضها على أطباء شرعيين مستقلين، حيث أشاروا إلى احتمالية عنف مورس ضد هدهود.
ـ تظهر الواقعة أسئلة أخرى، تخصّ أداء مستشفيات الصحة النفسية، وكيفية السماح لأجهزة الشرطة بإيداع أشخاص بهذه المشافي من دون الكشف عليهم نفسياً وبدنياً للتأكد من عدم وجود إصابات فيهم، ومن دون مرورهم بأي إجراءات طبية أكدت عليها وزارة الصحة، وهو الأمر الذي خضع له مدير المستشفى. كما شهدت حالة هدهود غياباً كاملاً لأشكال الرعاية الصحية، سواء قبل إيداعه أو قبل وفاته في المشفى، وهو ما تظهره رسائل "واتساب" نشرها موقع مستقل بين طبيبة نفسية عاينت حالة أيمن هدهود الصحية قبل وفاته، وبين طبيب متخصّص حول أعراض المريض والعلاج اللازم له.
طالما استمر في مصر غياب العدالة فستستمر الوقائع غير المعروفة لتنضمّ إلى حالات يجرى فيها الإفلات من العقاب
... المؤكّد أنّ باب التكهنات حول وفاة هدهود سوف يظلّ مفتوحاً، ولن تغلقه بيانات النيابة العامة بمحاولة تبرئة الأجهزة الأمنية من أي اتهامات، والتي تتحمّل مسؤولية حمايته واحترام حقوقه الإنسانية منذ القبض عليه وبقائه في قسم شرطة قصر النيل ستة أيام قبل إرساله إلى المستشفى، فماذا حدث لخرّيج الجامعة الأميركية، هدهود، خلال هذه المدة؟ وهل ما حدث له يمثل موقفاً أمنياً ضد الباحثين، والذين قبض على عديدين منهم، وصدرت أحكام قضائية بحقهم.
وثمّة سيناريو آخر متصوّر يعرفه كلّ المهتمين بأوضاع مقارّ الاحتجاز والسجون المصرية بتعذيب هدهود بدنياً ونفسياً حتى الانهيار وحدوث إصاباتٍ أدّت إلى وفاته في أحد المقارّ الأمنية التي أودع فيها، وبالتالي، لم تجد هذه الأجهزة حلاً سوى إيداعه في أحد المستشفيات للتخلص من مسؤولية وفاته، وهو ما لم يجر إثباته بسبب غياب ضمانات المحاكمة العادلة باحترام حقّ المتهم في إبلاغ أسرته ومحاميه بالقبض عليه، لتوفير المساعدة القانونية اللازمة، وغياب استقلالية المؤسّسات الأخرى، مثل الطبّ الشرعي ومستشفيات وزارة الصحة، وضعف استقلال النيابة العامة وتمتّعها بسلطاتٍ مطلقةٍ في الاتهام والتحقيق بدون مراقبة سلطة أخرى. وهو ما يؤكّده تحذير بيان النيابة من ادّعاءات "قوى الشر" و"أصحاب النوايا الخفية"، وهو خطاب سياسي أكثر منه قانونياً يظهر فيه تبنّي النيابة العامة لخطاب السلطة التنفيذية في اتهام خصومها السياسيين.
وطالما استمر غياب العدالة فستستمر هذه الوقائع غير المعروفة لتنضمّ إلى حالات أخرى يجرى فيها الإفلات من العقاب، إلّا في حالات استثنائية يتمكّن فيها الرأي العام من استخدام قوته لإظهار الحقيقة.