معاقبة أذربيجان على انتصارها
مضى عام على حرب ناغورني كاراباخ التي حقّقت فيها أذربيجان نصراً عسكرياً على جارتها وغريمتها أرمينيا. ومع أن الطرف الخاسر تقبّل الهزيمة ونتائجها بصورة واقعية، إلا أن أطرافاً "ثالثة" لم تقبل نتيجة تلك الحرب، فأذربيجان في جنوب القوقاز هي إحدى الدول "الصغيرة"، ذات الموقع الحساس التي تعيش تحت وطأة التهديدات وصراع النفوذ بين الدول الكبيرة والكبرى. وفي الوقت نفسه، فإنها تتحمّل جزءاً من المسؤولية عن وضعها الحالي، نتيجة سياسات تجريبية، وتقييمٍ متسرّعٍ لحماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي. ويمثل التوتر الإيراني الأذري الحالي صورةً فاقعةً عن هذه السياسات الإقليمية والداخلية في البلدين وتأجيجها التوتر، فالنظام "الثوري" الإيراني نظر بتوجّس إلى استقلال أذربيجان في عام 1990، وتأخر في الاعتراف باستقلال هذه الدولة عن النفوذ السوفييتي، نتيجة رواسب تاريخية عن أن أذربيجان جزء من الدولة الإيرانية قبل قرون، ولكون محافظات إيرانية في شمال البلاد، تتمتع بأغلبيةٍ أذريةٍ، ما قد يشجع هؤلاء على الانفصال والالتحاق بالدولة الوليدة. أما أذربيجان الجديدة قبل ثلاثة عقود فقد سارعت إلى نسج علاقاتٍ مع تل أبيب خلافاً للاتجاه الكاسح في العالم الإسلامي آنذاك، وهي جزء منه، وهو ما رأت فيه إيران مبرّراً لسلبيّتها شبه الدائمة نحو باكو، على الرغم من أن أرمينيا، الدولة التي استقلت بالتزامن مع استقلال أذربيجان، أقامت بدورها علاقات مع تل أبيب، إضافة إلى الحليفة الكبيرة لإيران، وهي روسيا.
تخشى طهران من ضربةٍ إسرائيلية تستهدف المنشآت النووية تنطلق من الأراضي الأذرية، في ضوء التهديدات الإسرائيلية العلنية في هذه الآونة
لا تنفي باكو علاقاتها مع تل أبيب، ولكنها تشدّد على أن أية قوة أجنبية لن تقف داخل الأراضي الأذرية على الحدود الطويلة مع إيران (760 كيلومتراً). والذي حدث، منذ بداية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أن باكو أخذت تمنع مرور شاحناتٍ محمّلةٍ بالنفط إلى أرمينيا عبر الأراضي الأذرية، في مناطق سيطرت عليها أذربيجان في العام الماضي في حربها لاستعادة ناغورني كاراباخ التي استعادتها بالفعل، مع مناطق محيطة بها. وتسوّغ باكو ذلك بأن طهران لم تُبرم اتفاقاً معها بخصوص مرور هذه الشاحنات، إذ تتصرّف طهران، وكأن شيئاً لم يتغيّر في تلك المنطقة خلال العام الماضي. والآن، تقول طهران، بلغةٍ فخيمةٍ، إنها لن توافق على "تغييرات جيو استراتيجية" على الحدود، ومغزى ذلك أنها لا تقبل نتائج تلك الحرب التي انتهت بوقف إطلاق النار رعته حليفتها موسكو في مثل هذه الأيام من العام الماضي. وتقول، إلى جانب ذلك، إن الوجود الإسرائيلي في هذا البلد القوقازي هو مصدر قلقها، وهو أمر مفهومٌ ومبرّر، مضيفةً أن أذربيجان تسمح لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالوجود على أراضيها، ما يُحتسب في عداد الدعائية (البروباغندا) الإيرانية، إذ يتم، على الدوام، استخدام ورقة "داعش" للتغطية على أي خلاف مع أي جهة، على الرغم من أنه لا يوجد من دليل على وجود هذا التنظيم الإرهابي على الأرض الأذربيجانية. وعلى الرغم من أن لإيران دواعشها التي تخضع لعقوباتٍ غربيةٍ وإقليمية. وهكذا، وفي مُقتبل عهد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية حسين عبد اللهيان، تصاعد التوتر فجأة. وبدلاً من معالجة الخلاف على مرور شاحناتٍ كان وما زال يمكن تسويته بمباحثات مباشرة، فقد سارعت إيران إلى إجراء مناورة عسكرية ضخمة على الحدود مع أذربيجان، وأرفقتها برسائل علنية مفادها بأن جارتها هي المقصودة، وأن قوةً عسكريةً إيرانية كبيرةً سوف تبقى رابضة على الحدود، وردّت أذربيجان بإجراء ثلاث مناورات عسكرية، شاركت فيها جورجيا وتركيا وباكستان إلى جانب القوات الأذرية.
تتطّع إيران إلى أن تكون جارتها "الصغيرة" مطواعة، وأن تمتثل لمقتضيات التحالف الإيراني الروسي
لم يكن استحضار حرب العام الماضي في ناغورني كاراباخ التي لم تبتلع طهران نتائجها المحرّك الوحيد، إذ إن هواجس ايران تمتد إلى الاتفاق النووي الغربي ومفاوضاته المتعثرة في فيينا مع الولايات المتحدة، إذ تخشى طهران من ضربةٍ إسرائيلية تستهدف المنشآت النووية تنطلق من الأراضي الأذرية، وذلك في ضوء التهديدات الإسرائيلية العلنية في هذه الآونة. وهنا تتحمّل باكو قدراً كبيراً من المسؤولية، إذ تجعل البلاد مسرحاً لصراع إقليمي على أراضيها. وعلى الرغم من أن إيران لم يسبق أن ردّت على عشرات الهجمات الإسرائيلية المتعاقبة على قواتها في سورية، إلا أنها تستشعر الخطر هذه المرّة بعد سوابق إسرائيلية نالت من منشآتها النووية وحياة خبرائها. والآن، تقع هذه المنشآت مجدّداً في دائرة التهديد السياسي والعسكري من الدولة العبرية. وتكراراً، تتحمل باكو قدراً من المسؤولية، لأنها أبقت على تعاونها العسكري مع تل أبيب نهباً للتقديرات والتكهنات الخارجية المتضاربة، ولم تنجح في رسم صورةٍ تظهر فيها أن هذا التعاون محدودٌ ومؤقت مثلاً، ولا ينعكس على قراراتها السياسية والسيادية، وأنها لن تسمح بأن تستخدم أراضيها قوةٌ أجنبية لمهاجمة دولة ثالثة. علماً أن واقع الحال يفيد بأن التعاون الواسع متعدّد المستويات بين باكو وأنقرة، وبالذات على مدى العقد الماضي، كان من شأنه عملياً تقليص الحضور العسكري والأمني الإسرائيلي، بدليل أن حرب غروزني كاراباخ أخيراً قد حققت نتائجها بفضل الدعم التركي، وليس أي طرف آخر، وهو ما جهرت به موسكو في حينه، وهي التي كانت وما زالت تدعم أرمينيا، وكما هو حال طهران الأقرب إلى أرمينيا منها إلى أذربيجان.
وإلى ما تقدّم، يعدّ الصراع على أسواق النفط والغاز مُحرّكاً رئيسياً للخلافات، وخصوصاً مع العقوبات النفطية التي تتعرّض لها طهران، ومع كون الدولة "الصغيرة" أذربيجان ذات شأن ووزن في عالم الطاقة، فعديد من طرق النقل الدولية في منطقة بحر قزوين إما تنطلق منها أو تمرّ من أراضيها. ولهذا تستخدم إيران نبرة التهديدات، إذ تتطلع إلى أن تكون جارتها "الصغيرة" مطواعة، وأن تمتثل لمقتضيات التحالف الإيراني الروسي (ذكر الوزير عبد اللهيان أن بلاده تنسّق سياستها في جنوب القوقاز مع موسكو)، وأن لا تنتهج نهجاً مستقلاً في تنويع علاقاتها مع دول العالم وتمتينها مع الغرب، وأن تضع المصالح الإيرانية والروسية في الاعتبار الأول، مع السعي إلى تحقيق حلم قديم في "استعادة" هذه الدولة، ذات العشرة ملايين نسمة، 85% منهم من الشيعة، غير أنهم ينتسبون إلى أرومة تركية، وهذا ما يجعل الرئيس التركي، رجب أردوغان، يصف علاقة بلاده بأذربيجان بأنها علاقة "شعب واحد في دولتين". بينما يبقى الوجود الإسرائيلي في هذا البلد، على حساسيته وخطورته، سطحياً وتقنياً بغير عمق ثقافي، فيما الصراع الإيراني المتشعب والجوهري، كما تنبئ الوقائع، هو مع تركيا في القوقاز وآسيا الوسطى، وما يتيسّر من مناطق أخرى، وليس مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.