متى تغرق السفينة؟
قبل أكثر من عام، جرى توزيع هذا العنوان على الصحف المصرية: بتكليفاتٍ من الرئيس عبد الفتاح السيسي .. الحكومة تستعد لاحتفالية افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة. نقلت الصحف كلها عن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي قوله إن الاحتفالية ستكون على أعلى مستوى، وسيتم من خلالها التعبير في رسالة واضحة عن "الجمهورية الجديدة" التى أعلن عنها السيسي.
مرّ أكثر من عام، لتتكرّر العناوين والتصريحات ذاتها في الصحف، مع بياناتٍ موسّعةٍ عن مشتملات عاصمة الجمهورية الجديدة من أعلى برج وأضخم مبنى وأفخم فندق، ثم تضاف إلى ذلك كله أغلى وأفخم طائرة رئاسية، ثمنها يصل إلى تسعة مليارات جنيه مصري، يجري الكشف عن الاستعداد لتسلمها بالتزامن مع الاستعداد لتسلم قرض آخر من صندوق النقد الدولي بنحو ملياري دولار.
يحدُث ذلك في وقتٍ تتعالى فيه الأصوات، محذّرة من أن كارثة تُحدق بالبلاد، إذ تتحدّث التقارير والأرقام عن عجز تام عن سداد فوائد الدين الخارجي الذي بلغ أرقامًا غير مسبوقة في التاريخ، راسمًا صورة أكثر بؤسًا وقتامةً مما كانت عليه مع الخديوي سعيد قبل قرنين، حين تم رهن مصر للدائنين.
وحسب الإحصائيات الرسمية، ارتفع الدين الخارجي لمصر إلى 157.8 مليار دولار في نهاية مارس/ آذار الماضي من 145.529 مليار دولار في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2021، بنسبة ارتفاع بلغت نحو 8.5% تقريباً خلال ثلاثة أشهر فقط. وعن هذا الوضع، تقول وكالة "بلومبيرغ" إن قلقاً يسود أوساط المستثمرين، وسط ارتفاع مخاطر تخلّف مصر عن سداد الديون، خشية تكرار نموذج سريلانكا، مضيفة أن مصر أصبحت أحدث رمز للمعاناة التي تجتاح الدول الفقيرة، على خلفية ارتفاع التضخّم، وفوائد القروض، وتراجع النمو العالمي.
في مقابل ذلك كله، لا يزال الذين يحكمون بالحديد والنار مستمرّين في خداع الذات، وتعاطي الأوهام عن الانطلاق والقفزة الهائلة في المستقبل القريب، ولا يخلو الأمر من مساخر حقيقية، عندما يكون مطلوبًا من المواطن ترشيد شرب الشاي، بموازاة التخويف من فكرة مساءلة السلطة ومحاسبتها على المأزق الذي انحشرت فيه مصر، كي لا تنهار البلاد.
لا يمكن لعاقلٍ أن يسلم بالرواية الركيكة إن كل شيء كان من الممكن أن يكون على ما يرام، لو لم يظهر فيروس كورونا وتشتعل الأزمة الأوكرانية، فكل المؤشّرات كانت واضحة منذ ما قبل "كوفيد" والحرب في أوكرانيا على أن أسلوب الإدارة بالأوهام والوعود والبروباغندا المدمّرة للوعي لن يؤدّي إلا إلى كارثة.
وها هو الواقع ينطق بأن معطياتٍ عدّة تجعل مصر أشبه بسفينةٍ جانحةٍ محشورةٍ في مضيق، وتبحث عن معجزة للنجاة من الغرق، بينما لا أحد من الجالسين في كابينة القيادة، أو المتعاركين على ظهرها، يفكر في حل حقيقي وفعال للإنقاذ، إذ تستمر حالة الخوف المتبادل والرغبة في الإزاحة والإقصاء.
لا أحد يمتلك خطابًا مقنعًا يطمئن ركّاب السفينة الكبيرة على حياتهم ومستقبلهم، وهي تمضي هائلة تمضي في بحرٍ هائج تصارع الأمواج والحيتان، تتخبّط هنا وهناك، وتصطدم بصخور يمينا وشمالا، بينما لا شاطئ هناك، ولا ضوء بعيدا تهتدي به وإليه، ولا ربّان جديرا بقيادتها.
وكأن كل المتكدّسين على متن السفينة المتخبطة لا يشغلهم سؤال كيف يكون الإنقاذ، بل يستغرقون في التساؤل العاجز عن: متى تغرق السفينة؟
بالمناسبة: هل لا يزال أحد منشغلًا بموضوع سد النهضة؟