"ماكنة تنظيف" الأمم المتحدة
على أثر الصورة التي ظهر بها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مع زعماء حرب وقادة فصائل مسلحة في بغداد، وهم يبتسمون، تساءل أصدقاء عن جدّية توقعاتنا بأن يكون لهذه المؤسسة الدولية دور مغاير، كأن يكون في صالح الشعوب وقيم الحرية والعدالة، لا في صفّ الأنظمة وتخادم المصالح.
في أدراج الأمم المتحدة، يستطيع غوتيريس أن يطالع مئات القصص الإنسانية المأساوية التي رواها عراقيون هربوا من جحيم الجماعات المسلحة في العراق، وقدّمت لهم الأمم المتحدة اللجوء والحماية السياسية والإنسانية بناءً على هذه القصص.
يستطيع غوتيريس أن يتعرّف إلى ملامح الزعماء السياسيين العراقيين وقادة المجموعات المسلحة الذين صافحهم في بغداد، بشكل أفضل من خلال مطالعة قصص العراقيين في أدراج الأمم المتحدة، وهي قصصٌ لن يستطيع أصحابها نسيانها، وربما لن ينساها أبناؤهم من بعدهم، فهي قد غيّرت من مصائرهم بصورة حاسمة وإلى الأبد.
أي بائع سجائر على أرصفة العاصمة سيقول للسيد غوتيريس الرأي الذي يُجمع عليه غالبية العراقيين؛ فهؤلاء لا يمثلون الشعب العراقي، ولا مصالحه، والنسبة الأكبر منهم تمثل مصالح دولٍ مجاورة، كما أنهم يحكمون تحت ظلّ شرعية هي الأوطأ منذ 2003، وقد اعترف أحد هؤلاء السياسيين (نوري المالكي)، ومن على شاشة التلفزيون قبل أيام، بأن البرلمان الحالي والحكومة المنبثقة عنه لا يمثلان سوى أقل من 20% من أصوات من يحقّ لهم التصويت في انتخابات أكتوبر 2021.
كانت نسبةٌ ما من العراقيين تعوّل على الدور الأممي في العراق لتصحيح المسارات، أو على الأقل الضغط على الطبقة السياسية الحاكمة من أجل إجراء إصلاحات جذرية، ولكن الأمم المتحدة خسرت ثقة هذه النسبة من العراقيين في أحداث انتفاضة تشرين الأول 2019، حيث شاهد الجميع ردّ الفعل البارد على المجازر التي كانت تحدُث في مدن العراق على يد الأجهزة الأمنية الرسمية ومليشيات الأحزاب. وعلى الرغم من أن ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، بلاسخارت، قد زارت خيام المعتصمين، والتقطت صوراً مع المتظاهرين، إلا أنها لم تترك قائد مليشيا، من المتّهمين بالمجازر والجرائم، إلا والتقت به، واستمرّت بالتقاط الصور مع الجميع، وهو ما قد يُفهم على أنه جزءٌ من مهماتها الدبلوماسية، ولكن ما تعزّز في أذهان المراقبين أن ممثلة المنظمة الدولية ترى الجريمة وجهة نظر! وأنها لا تمانع استفزاز أهالي الضحايا والنخب المدنية والثقافية والإعلامية والناشطين الذي خسروا أصدقاءهم في ساحات التظاهر برصاص هؤلاء الزعماء الذين تواظب بلاسخارت على اللقاء بهم في كلّ وقت وحين. .. وهذا ما دفع شخصيات إعلامية وثقافية عديدة في العراق إلى توقيع بيانٍ يطالب الأمم المتحدة باستبدال ممثله في العراق، تحت شكوك التخادم السياسي والمالي وتبادل المصالح الذي قد تكون بلاسخارت متورّطة به.
غير بعيد عن ذلك تلك الصورة الأوسع، ذات الأثر النفسي السيئ عند العراقيين، عن دور الأمم المتحدة في خراب العراق منذ العام 1990. فعلى الرغم من أن صدّام حسين هو المسؤول الأول عن هذا الخراب بسبب مغامرته العسكرية بغزو الكويت، إلا أن العقوبات الدولية التي استمرّت 13 عاماً كانت أقسى من المعقول، ولم تنل من صدام، بل دمّرت كل مؤسسات الدولة العراقية وسحقت المجتمع إلى حدودٍ لا يمكن تخيّلها. وكان من الطبيعي في أخريات التسعينيات أن تسود فكرة أن المجتمع الدولي نسي العراق، فوضعت الأمم المتحدة القفل على بلدٍ كامل وأغلقته وانشغلت بشؤونٍ أخرى.
ترى الأمم المتحدة اليوم، على ما يبدو، أن من المصلحة التعامل مع الأمر الواقع، و"ترويض" المجرمين والفاسدين كي يكونوا سياسيين محترمين. ولكنها، إن سلمت من شبهة التخادم المالي والسياسي، تضع نفسها في مهمة تنظيفٍ فاشلة، وتخسر من سمعتها في العراق أكثر بكثير مما خسرته سابقاً. وتمنح شرعيةً مجانيةً لأناس لا شرعية لهم عند عراقيين كثيرين.