مات غورباتشوف وبقي غبار معركته

01 سبتمبر 2022

غورباتشوف يحضر العرض العسكري ليوم النصر في موسكو (9/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -

انتُخب ميخائيل غورباتشوف في 11 مارس/ آذار 1985 أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي، وفي 21 ديسمبر/ كانون الأول 1991 حلَّ الاتحاد السوفييتي رسمياً، وفي 25 منه استقال من رئاسة الاتحاد السوفييتي. وخلال هذه السنوات القليلة، كان الرجل ملء السمع والبصر. وبانهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح بطل قصة أسطورية/ خرافية شديدة الذيوع، عن "اختراق" استخباراتي أميركي حوَّل غورباتشوف إلى "متآمر" دمّر الاتحاد السوفييتي!
والتبسيط كان دائماً أحد "أعراض ما بعد الصدمة"، حيث تلجأ الجموع، في حالات كثيرة، إلى البحث عن العامل الواحد الذي يفسّر الصدمات التاريخية الكبيرة، بما يتناسب مع ثقافاتٍ تتسم بحزمةٍ من الصفات التي يرسخها الاستبداد، تشمل: "الكسل العقلي" و"التفكير بالتمنّي" و"الإنكار"، مجتمعة أو منفردة. ومن المفارقات المثيرة أن قسماً لا يُستهان به من خطاب اليسار العربي ما زال يتباكى على الاتحاد السوفييتي، مردّداً "سردية المؤامرة"، رغم أن النخبة السياسية الروسية نفسها تجاوزتها. وعلى سبيل المثال، أكَّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطاب أمام مجلس الدوما (مايو/ أيار 2006)، أن الاتحاد السوفيييتي أخطأ عندما تجاهل "الأوضاع المعيشية للمواطنين"، بسبب سباق التسلح، في اعترافٍ واضحٍ بواحد من الأخطاء الكارثية للتجربة السوفييتية.

بعض من شهد حكمهم نهاية نظام سياسي، أو حكم أسرة حاكمة، كانوا مصلحين عجزوا عن مواجهة أسباب انهيارٍ تراكمت

ومن شجون الحديث عن حقيقة انهيار الاتحاد السوفييتي، ما نشره الشيوعي المصري المخضرم سعد كامل (مقال في الأهرام القاهرية 8 أغسطس/ آذار 1989)، يصف لقاءه مع صديق من الحزبيين السابقين (الحرس القديم) الذي صدم سعد كامل بأن قال له: "أنتم الشيوعيين العرب سبب البلاء، أنتم، وبصفة خاصة المصريين، كنتم أشد ملكية من الملك نفسه، حيث كنتم تؤيدون ستالين وبريجنيف وشجعتم على وقوعنا في الخطأ"!
ولا يمكن أن يكون اتهام القيادي السوفييتي للشيوعيين العرب بالمسؤولية، جزئياً، عن وصول التجربة السوفييتية إلى طريق مسدود هو الآخر أن يكون "السبب"، لكنه يمكن أن يكون بين مركّب أسباب داخلية وخارجية أدت، بشكل متزامن، إلى أن يصبح زوال الاتحاد السوفييتي "تحصيل حاصل". وفي دراسات فلسفة التاريخ اجتهاد مهم سعى من خلاله باحثون لتقييم مدى عدالة تحميل "الحاكم الأخير"، الذي يسقط في عهده نظام سياسي أو حكم أسرة، المسؤولية منفرداً عن هذه النهاية، ويرى نقّاد أن رائعة الكاتب السويسري/ الألماني فريدريش دورينمات "رومولوس العظيم"، محاولة للإجابة عن هذا السؤال. وقد كشفت دراسات عدة أن بعض من شهد حكمهم نهاية نظام سياسي، أو حكم أسرة حاكمة، كانوا مصلحين عجزوا عن مواجهة أسباب انهيارٍ تراكمت وتضخمت حتى استعصى الإصلاح، وبالتالي، كانت علاقتهم بالسقوط علاقة "تزامن" لا علاقة "سببية".

خلال سنوات حكم غورباتشوف كانت القيود الصارمة التي فرضتها الدول الغربية على تدفق التكنولوجيا أكثر تأثيراً من كل مواجهات الحرب الباردة

وقد كان غورباتشوف الرجل الذي قدّر له أن يوقّع "قرار الاستسلام" في صراع استمر سبعة عقود، تراكمت خلالها أخطاء أخطرها: غياب الحريات، وانعدام الشفافية، وتغليب الولاء على الكفاءة، وخلال سنوات حكمه كانت القيود الصارمة التي فرضتها الدول الغربية على تدفق التكنولوجيا خلف الستار الحديدي (من خلال لجنة "كوكوم") أكثر تأثيراً من كل مواجهات الحرب الباردة، حيث تجاوزت الفجوة التكنولوجية بين العملاقين عشرة أعوام.
وفي الملابسات المباشرة التي سبقت الانهيار جرى، عمداً، تجاهل حقائق كثيرة، آخرها حرب أسعار النفط في الثمانينيات التي حرمت موسكو أحد أهم مصادر العملة الصعبة في وقت حرج. وضمن ما يتم تجاهله تصدّعات في بنية "حلف وارسو"، بدءاً من ظهور المعارضة السياسية القوية للشيوعية في بولندا، وما تلقته من دعم من بابا الفاتيكان البولندي المولد يوحنا بولس الثاني. ورغم أن هذا الدور أصبح موضع إجماع، ورغم أن هذا البابا، بسببه، يوصَف بأنه أحد أهم صنّاع التاريخ في القرن العشرين، إلا أن "أعراض ما بعد الصدمة" بقيت متفشّية في قسم لا يُستهان به من الخطاب العربي لتوفر أسباب الحياة لـ"سردية الاختراق الاستخباراتي"!
ورغم أن "التعهد الشفوي" المثير للجدل بألا يتوسّع "الناتو" شرقاً، أحد أهم أسباب الصراع في أوكرانيا اليوم، فإن أحداً لم يصف خطأ غورباتشوف بـ"الخيانة"، لأنه كان أقصى ما يستطيع أن يطلبه في لحظة انهيار الإمبراطورية، وها هو الرجل يموت في أحد مستشفيات موسكو من دون اتهام، قانوني أو سياسي، بالخيانة؟!
غورباتشوف مات وغبار المعركة باقٍ.